سيليكون فالي الهند عند مفترق طرق سيحدد مصيرها

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مدينة بنغالورو بالهند، تشعر في بعض الأحيان كأنك في بلدة صغيرة، إذ تحتفظ منطقة المعسكرات الحربية، حيث حلّت ثكنات الجنود الهنود محلّ البريطانيين، ببعض من المساحات الخضراء والأسماء الإنجليزية للشوارع من الحقبة الاستعمارية، وقد ساعد الطقس المعتدل لبنغالورو، وهو الأفضل في الهند حيث نادراً ما تتخطى الحرارة 30 درجة مئوية، على إقناع البريطانيين بالإقامة هناك.

وتم بناء الطرق لمجرد المرور العرضي لعدد من سيارات الضباط، ولراكبي الدراجات من الهنود، ولكن هذه الطرق تختنق اليوم بالسيارات، ولذلك، فقد سُميّت بنغالورو في سنة 2022 صاحبة ثاني أكثر مراكز المدن ازدحاماً بعد لندن، وفق «توم توم»، الشركة المصنعة لأجهزة الملاحة بالأقمار الصناعية.

وشهدت بنغالورو قفزة ضخمة في عدد السكان من قرابة 700,000 نسمة وقت الاستقلال إلى 14 مليون نسمة أو نحو ذلك في يومنا الراهن، متخطية لندن ونيويورك بكثير، كما تضاعف عدد السكان منذ سنة 2005، وهو نمو مذهل حتى بالنسبة لمدينة في العالم النامي، وبالنسبة للزائر الغربي، يبدو سكان بنغالورو يافعين على نحو مثير للدهشة، بالنظر إلى متوسط الأعمار في الهند يبلغ 28 عاماً.

وكانت بنغالورو يوماً ما «فردوس متقاعدين» جنوبية هادئة، حيث تفتح المحال التجارية في وقت متأخر، ولكنها تحولت لتصبح «سيليكون فالي الهند»، وتبدو المدينة ديناميكية على نحو مذهل، مثلما كانت مانشستر في أواسط الثورة الصناعية، ولكن بنغالورو بلغت اليوم مفترق طرق مزدحمة، هل ستصبح مدينة لامعة شأنها شأن نيويورك، أم مختلة وظيفياً كمومباي؟

وسيتطلب النجاح تعاملاً ناجحاً مع التحديات التي تواجه المدن النامية كافة، مثل السيطرة على حركة المرور، وحماية البيئة المحلية، والتكيف مع التغير المناخي، والسماح للمهاجرين من مختلف الأماكن بالعيش معاً في سلام.

ويعود تاريخ بنغالورو باحتسابها مركزاً للتكنولوجيا إلى سنة 1909، حينما أسس المعهد الهندي للعلوم، الرائد عالمياً اليوم، وتبع ذلك تأسيس عدد لا يُحصى من المؤسسات التعليمية، ويعمل اليوم أصحاب المهارات بالمدينة في شركات ناشئة ومراكز اتصال ومراكز بحثية لشركات عالمية، أو لدى مقار لمؤسسات تكنولوجية هندية، مثل «إنفوسيس»،.

ويخلق كل مطور للبرمجيات فرص عمل لخادمات، ومقدمي خدمات مأكولات ومشروبات، وعمال توصيل طلبات، ولذا، تتوسع بنغالورو، يومياً تقريباً، سواء عبر مجتمعات مُسوّرة، أو أحياء فقيرة.

ومثلما يغيّر المهاجرون المدينة، فإن المدينة هي الأخرى تغيرهم. وفي مدينة عاملة، لا يمكن فقط للوافدين الجدد أن يصبحوا أكثر ثراءً، وإنما يستطيعون أيضاً تحقيق ذواتهم بطرائق لم يقدروا عليها حيث أتوا.

قالت شوبا نارايان، المؤلفة، في مهرجان الأدب ببنغالورو هذا الشهر: «في بنغالورو، بإمكانك شق طريقك وسط الزحام وإيجاد نفسك»، وكانت الحشود الشابة الحاضرة للمهرجان علامة أخرى على الازدهار الثقافي للمدينة، وأخبرتني شابة مهاجرة، من كلكتا قائلة: «الشباب هم من يضعون القواعد هنا».

بإمكان الشباب، في بنغالورو المتسامحة تاريخياً، العيش في بعض الأحيان داخل شقق سكنية مختلطة الجنسين، وعمل ترتيبات الزواج بعيداً عن أهلهم، كما يمكن للنساء ارتداء الجينز والقمصان، والخروج مساءً بدرجة أقل من الخوف مقارنة بمدينة دلهي، ولكن مشكلة بنغالورو تكمن في مدى ملاءمتها للعيش، ولذلك، كتب ماليني غويال وبراشنث براكاش في «أنبوكسنغ بنغالورو»، إن المدينة «تنهار تحت وطأة نجاحها»، وغالباً ما تُعاد تسمية المدينة، التي كانت «مدينة الحدائق»، إلى «مدينة القمامة»، كما شُيّدت مباني المدينة فوق الجزء الأكبر من بحيراتها الشهيرة، ما يهدد إمدادات مياه الشرب في المدينة، وينغلق الأثرياء على أنفسهم في ضواحٍ جديدة، ما يخفف ما كان مُفترضاً به أن يكون التفاعل الكيميائي الإبداعي لمدينة كبيرة، وتحتاج هذه الضواحي لأن تكون مراكز يسهل الوصول إليها، لكي يتسنى لبنغالورو الحصول على عدة مراكز على نحو أسرع مما شهدت باريس أو لندن.

وتتمثل ميزة بنغالورو في توسعها الحديث، ويعني ذلك إمكان تفاديها الأخطاء التي ارتكبتها المدن الكبيرة في القرن العشرين، والتي أعادت تهيئة نفسها للسيارات، ولكن انتهى بها المآل إلى اختناقات مرورية وعدد غير نهائي من الجسور التي دمرت القابلية للعيش فيها، وقد تكون السيارات حلاً للبلدات الصغيرة، ولكن المدن التي تحتضن ملايين السكان لن تجد مكاناً لهذه السيارات، وقد افتُتِحَ مترو الأنفاق في بنغالورو فقط في سنة 2011، وهو آخذ في التوسع، وتحتاج المدينة على الفور أيضاً لإنشاء البنية التحتية للسكك الحديدية المحلية التي طوّرتها لندن على مدى قرنين، وستتمثل الإضافة المنطقية لهذا في حارات للدراجات، وهي عودة لماضي الدراجات في الهند، ولكنها تبدو غير ممكنة في الوقت الراهن؛ لأن السيارات لا تترك مجالاً لذلك.

إن بعض المدن الكبيرة لن تثبت في مواجهة التغير المناخي، ولكن بنغالورو تنطلق من وضع أفضل، أكثر من دلهي التي يغطيها الضباب الدخاني، أو مومباي الساحلية المُعرضة لخطر الفيضانات، غير أن الحرارة تزداد سوءاً هنا، كما أن العام الماضي كان الأكثر هطولاً للأمطار على الإطلاق في تاريخ المدينة.

وتواجه المدن متعددة الثقافات كافة تهديداً آخراً، وهو النزاع العرقي، وبحلول سنة 2011، كان سكان المدينة يتحدثون 107 لغات مختلفة، وهو الرقم الأكبر في الهند.

وبعض المحليين من متحدثي الكنادية، ممن يراودهم الحنين للفردوس الضائع، لا يكفون عن التذمر بسبب الوافدين الجدد، وخاصة المهاجرين الأفقر من شمالي الهند، ومن شأن الحوكمة الجيدة معالجة هذه المشكلات، ولكن الحوكمة ليست تقليداً معتاداً في بنغالورو، وربما يكون الوقت تأخر لكي تصبح المدينة شبيهة بنيويورك، ولكن لا يزال هناك وقت لكي تكون أفضل من مومباي.

كلمات دالة:
  • FT
Email