عندما تنافس أفضل فريقين في الدوري الإنجليزي الممتاز في نهاية الأسبوع، لا يمكن لأمريكا أن تخسر، فالأمريكيون يمتلكون أرسنال وليفربول، كما يمتلكون ميلان وروما ومارسيليا وليون وتشيلسي (حالياً) ومانشستر يونايتد.

وفي عام 1994، وهي آخر مرة استضافت فيها أمريكا نهائيات كأس العالم، لم يكن لديها حتى دوري محلي، لكنها عندما تستضيفه في عام 2026 سيكون في ظل لعبها دور مهم كمالك رئيسي في ثلاث بطولات أوروبية على الأقل، وهكذا، فإنه يجري توجيه أكثر لعبة مفضلة في العالم إلى حد كبير من داخل غرف اجتماعات أمريكية.

ربما يكون معيارك للتأثير الثقافي أرقى من هذا المستوى. حسناً، ضع في اعتبارك أن الجامعات الأمريكية تواصل هيمنتها على التصنيفات العالمية.

كما أنها، وفقاً لبنك يو بي إس، تستحوذ على 45 % من مبيعات الأعمال الفنية من حيث القيمة، أي أكثر من المملكة المتحدة والصين مجتمعتين، وهما تأتيان بعدها في الترتيب. ويعتبر حضور معرض بينالي البندقية الفني الآن دخولاً إلى عصر الجاز الجديد، حيث يتنافس خبراء من جميع أنحاء العالم، لتقديم المشورة للرعاة الأمريكيين حول كيفية إنفاق غنائم ازدهارهم الاقتصادي.

وحتى هذا لا يصور بدقة سيطرة أمريكا المستمرة على مخيلة العالم، والتي تظهر بشكل أكبر في الحروب الثقافية، فرغم أن أصل بعض الأفكار الفلسفية الأساسية فرنسي، إلا أن الحركة المعروفة باسم «ووك» كانت هدية الولايات المتحدة إلى الديمقراطيات المتقدمة الأخرى (مع الأسف دون إيصال).

هذا مجرد انطباع شخصي، بالتالي هو غير قابل للقياس، ولكنني أرى أن أمريكا الآن لديها انتشار ثقافي أكبر مما كانت عليه في مرحلة الأحادية القطبية المفترضة في التسعينيات، فقد أشعل مقتل جورج فلويد على يد الشرطة في مينيابوليس، قبل ثلاث سنوات، الاحتجاجات في لندن وباريس وأماكن أخرى، ولم يحدث الضرب الذي تعرض له رودني كينج في عام 1991 هذا الصدى الدولي.

وفي ذلك الوقت لم تتابع النخبة البريطانية وسائل الإعلام الأمريكية كما لو كانت شأناً داخلياً، أو تطلب من بعضها البعض التوقف عن «التلاعب العقلي» أو «تحسين الأداء»، ناهيك عن صياغة كل هذا الكلام، الذي لا يمت لهم بصلة، وسرده بنغمة عالية وكأنه سؤال، ومع بعض التعديل على ما قاله جيفرسون عن فرنسا، يبدو أنه أصبح لدى الجميع، أو على الأقل لدى جميع المثقفين والليبراليين بلدان بلدهم وأمريكا.

في المقابل يواصل النفوذ الجيوسياسي للولايات المتحدة تراجعه، فقد كانت الأشهر الأخيرة بمثابة درس تعليمي حول قدرة واشنطن المحدودة على التأثير في الشرق الأوسط.

كما فشلت القوة العظمى، التي كانت يوماً ما بلا منازع، في إقناع الكثير من دول العالم بالمشاركة في فرض العقوبات على روسيا، ولم يكن لديها الكثير لتظهره خلال 20 عاماً من وجودها بأفغانستان. كذلك تكافح مؤسسات بريتون وودز، من أجل الاحتفاظ بدورها وأهميتها.

وكما يوضح التقرير الأخير للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية فإن انتشار النزاعات المسلحة يشير إلى أن «السلام الأمريكي» يترك المجال، وإن لم يكن أمام «السلام الصيني» فعندها لن يكون هناك أي نوع من السلام مطلقاً.

وكما كانت الحال خلال الحرب الباردة تكافح أمريكا لتطويق «الجنوب العالمي»، الذي كان يطلق عليه في ذلك الوقت «العالم الثالث»، وسيطلق عليه شيء آخر قريباً، عندما يتحرك البروتوكول الليبرالي بكل تحولاته المنتظمة.

إن ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين هو أشد تعقيداً من أن يوصف صراحة بأنه «انحدار»، فرغم انخفاض حصتها من الناتج العالمي لا يزال تأثيرها الكبير كما كان دائماً على الثقافة العالمية، على أذواق وتعبيرات وعادات الأجانب. وسواء كانت اهتماماتك تتعلق بأمور كبيرة (أين يجب أن أكمل دراستي العليا؟)، أو الأمور العادية (ما البرنامج الذي سأشاهده الليلة؟)، أو الأمور الشعبية (من يمتلك ديكلان رايس) فلا تجد سوى أمريكا.

وقد مر عقدان منذ فقدان موقعها نسبياً أمام الصين، من حيث القوة التقليدية، وينبغي أن تظهر تداعياته على هيبة الولايات المتحدة في مجالات أخرى، لكنها ضئيلة بشكل لا يصدق.

هل هذا أمر جيد للأمريكيين؟ بإمكانك رؤية كيف يمكن أن يكون ذلك. الأمر الوحيد الذي ساعد بريطانيا بعد الحرب على استيعاب خسارة الإمبراطورية هو أنها كانت تعلم أن لغتها في طريقها للصعود بقوة عالمياً، وأن موسيقى البوب تنتشر حول العالم، وإذاعتها الوطنية تعتبر مرجعاً عالمياً، (وأمر آخر وهو الاعتقاد الجاهل والمطمئن في الوقت نفسه بأن المنتصر، أمريكا، يتألف من «أقارب» عرقيين).

كما لم تتمتع أي دولة أوروبية تسعى لإنهاء الاستعمار بوسائل مرنة كتلك.

وفي الوقت نفسه أعمى كل هذا البريق الثقافي البريطانيين عن مدى تراجعهم عن الطاولة الجيوسياسية العالية، ونجم عن ذلك بعض التقديرات الخاطئة الفادحة، مثل الامتناع عن المشاركة في المشروع الأوروبي- الأوروبي الوليد.

والمقارنات بين التراجع البريطاني والتراجع الأمريكي لا فائدة منها في الأغلب، فلسبب واحد فقط لا يمكن للولايات المُتحدة، التي يبلغ عدد سكانها 330 مليون نسمة، أن تتراجع إلى مستويات منخفضة كبريطانيا.

لكنني أتساءل عما إذا كانت ستواجه نفس الصعوبة، التي واجهت بريطانيا في إدراك وضعها الجيوسياسي المتضائل، وتكييف كفاءتها السياسية للتعويض عن ذلك. عموماً فإن الاحتفاظ بانتشار ثقافي هائل يعد مثل وسادة رائعة لقوة عظمى في مرحلة بعد الذروة، المهم هو ألا تغفو عليها.