ثمة مقدمات قوية لاشتعال معركة ضارية تدور رحاها في الفضاء. على أحد أطراف هذه المعركة تقف مجموعة من المليارديرات الذين يبنون كوكبة ضخمة من الأقمار الاصطناعية لتوفير خدمة الإنترنت عريض النطاق في المدار الأرضي المنخفض، وعلى رأس هذه المجموعة يقف إيلون ماسك من خلال مشروع ستارلنك للإنترنت التابع لشركة سبيس إكس ومالك شركة أمازون جيف بيزوس من خلال مشروع كويبر.

على الجانب الآخر، تقف شركات تشغيل الأقمار الاصطناعية الاعتيادية أمثال «فيا سات» و«إس إي إس»، ومعها عدد كبير من الدول التي أبدت مخاوف متزايدة حيال الطريقة التي يتبلور بها الاقتصاد الفضائي الجديد.

بمعنى آخر، يأتي هذا نتيجة سيطرة مجموعات الأقمار الاصطناعية الأمريكية العملاقة على أحد الأقاليم الاستراتيجية في عالم الفضاء الخارجي، حيث شهد شهر نوفمبر الماضي الإعلان عن انطلاق أول دفعة من الأقمار على هامش المؤتمر العالمي للاتصالات الراديوية الذي عقد في دبي حيث تلتقي الجهات التنظيمية العالمية وأبرز المعنيين بالصناعة كل أربعة أعوام لمراجعة اللوائح الدولية المتعلقة باستخدام الطيف الراديوي.

وبالنسبة لمن لديه فكرة مبهمة عن ماهية الطيف، فهو الاسم الذي يطلق على موجات الراديو الهوائية التي تنقل البيانات وتحملها لاسلكياً لتوفير نطاق عريض من الخدمات التي تشمل البث التلفزيوني والواي فاي والملاحة واتصالات الهواتف المحمولة.

ومعظم الناس متشبثون بفكرة أن موجهات البث الهوائي لها قدرة غير محدودة على تواصل الناس ببعضهم البعض، لكن، على غرار الماء، يعتبر الطيف مصدراً محدوداً، وأغلب عناصره مخصصة بشكل فعلي لاستخدامات بعينها. لذا يجب على شركات التشغيل أن تنقل الإشارات على نطاقات مشتركة من الطيف على أمل ألا تتعارض عمليات الإرسال مع غيرها من العمليات الأخرى.

ومن ثم تسعى شركات مثل: سبيس إكس، وكويبر، وبعض الشركات الأخرى التي تعمل في المدار الأرضي المنخفض إلى تخفيف القواعد المشددة التي تستهدف الحيلولة دون تداخل إشاراتهم مع الإشارات العائدة لشركات التشغيل التقليدية في المدارات الأعلى، فهذه القواعد تفرض حدوداً قصوى معينة على الطاقة المستخدمة في نقل الإشارات مما يسهل عملية مشاركة الطيف، ولكنها تقيد في الوقت ذاته كمية البيانات التي يمكنها إرسالها.

ووصفت شركات تشغيل المدار الأرضي المنخفض هذه القواعد التي تعود إلى 25 عاماً مضت بالقديمة. وترى هذه الشركات أن التكنولوجيا الحديثة قد تسمح باستخدام مستويات أعلى من القدرات لمختلف استخدامات العملاء، دون الحد من قدرات الشبكات المخصصة لأنظمة الأقمار الاصطناعية التقليدية الثابتة، التي تعمل في المدار الثابت للأرض، على ارتفاعات تصل إلى 36000 كيلومتر.

وقد لا يكون مفاجئاً أن يتلقى الطرح الذي يستهدف جعل كوكبات المدار الأرضي المنخفض أكثر تنافسية موجة واسعة من الاعتراضات، من شركات تشغيل المدار الثابت للأرض. وبعض الشركات مثل هيوز لأنظمة الشبكات، أكدت أنها تفقد عملاءها لصالح ستارلينك. كما أن هناك موجة معارضة شديدة من بعض الدول، مثل: البرازيل، وإندونيسيا، واليابان، وغيرها.

وقال حازم مواقت، رئيس قسم استراتيجية الطيف لدى شركة انتلسات إن الاقتراح قد أصبح «جبهة لمعركة جديدة» لمخاوف ذات نطاق أوسع وأشمل، وذلك في ظل سيطرة الكوكبات العملاقة للأقمار الاصطناعية، فضلاً عن تداعيات الوصول العادل إلى الطيف والمدارات الفضائية، وأخيراً أثرها على الاستثمارات الوطنية فيما يتعلق بالقدرات السيادية بالمدار الثابت للأرض.

وقد أخبرني أن «حكومات الدول اجتمعت وأصرت بقوة على أنها لا تريد تغيير القواعد. واحتج بعضها على خلفية أسباب تنافسية والبعض لأسباب أمنية وأخرى لأسباب تتعلق بالاستدامة».

من جهتها، قالت كاثرين جيزينسكي، الرئيس التنفيذي لشركة استشارات الطيف ريفر ادفايزرز: «كل الأطراف كانت على قلب رجل واحد»، وأضافت «المسألة تتعلق بكيفية التشارك في استخدام الطيف، وكذلك حجم التداخل الذي يمكن قبوله». وقال تيم فارار من شركة الاستشارات تي إم إف: البعض الآخر كان يأمل في «تقييد» وإبطاء وتيرة نمو كوكبات الأقمار الاصطناعية العملاقة.

وتمكنت ستارلينك خلال أربعة أعوام فقط من إطلاق ما يناهز 5000 قمر اصطناعي، مع التخطيط لإطلاق الآلاف منها. ولم يقم مشروع كويبر حتى الآن من وضع أقمار اصطناعية تشغيلية في المدار، ولكنه حجز رقماً قياسياً لعدد إطلاقات الصواريخ؛ ليضمن ويؤمن سرعة نشر الأقمار الاصطناعية اعتباراً من العام الجاري.

وقد منيت المشاريع المقترحة لتغيير القواعد خلال المؤتمر العالمي للاتصالات الراديوية، المقرر انعقاده عام 2027 بهزيمة كبيرة، ولكن المبدأ برمته لم يتبدد بعد. وقد سمح بتقديم دراسات فنية حول كيفية مراجعة حدود استخدام الطاقات المتاحة. ورغم أن الحلول الوسط ألغت فكرة التبعات والتداعيات التنظيمية الناتجة عن تلك الدراسات، إلا أنه تم في كل الأحوال اختراق الحصن الحامي للفكرة.

وقد تشكلت القواعد المعنية بحدود استخدام الطاقات عندما حدوث اختلاف جذري فيما يتعلق بالبيئة التنافسية، والوسائل التكنولوجية التي تحركها. وقد تأخرت مراجعة معظم القواعد لفترة زمنية طويلة بلا شك، وإذا قدمت إحدى الدراسات الفنية نهجاً حيوياً جديداً قابلاً للتطبيق، فقد يكون من الصعوبة بمكان الجدال بضرورة الحفاظ على الوضع الراهن كما هو عليه. وإذا ما كان يجب تغيير القواعد، فلا يجب أن يكون ذلك على حساب الدخول الآمن والعادل للفضاء والطيف، وقد يشكل المدار الأرضي المنخفض مستقبل الاتصالات المعتمدة على الفضاء.

لكن العديد من الدول لا يزال يساورها الشك حيال الأثر الذي قد تعود به هذه التكنولوجيا على النظم السيادية لديها، فضلاً عن قدرتها على الوصول إلى الفضاء في المستقبل. وفي الوقت ذاته، يجب ألا تجد هذه الدول أن الشركات، والدول الغنية قد وضعت إطار عمل يسمح لها باستغلال أفضل موارد الفضاء، وترك الفتات فقط لغيرها.