ما زال صنّاع السياسات يواجهون صعوبة في ربط الأطراف غير المُحكَمَة لمراجعة منتصف المدة للموازنة الحالية للاتحاد الأوروبي، وذلك في الفترة التي تسبق انعقاد القمة في الأول من فبراير. ورغم امتداد هذه الموازنة بين عامي 2021 و2027، فإن الوقت المُستغرق لم يستهدف التطلع إلى المستقبل. وحتى إن كانت تبعدنا أعوام عن الموازنة التالية، فإنه من الضروري أن يرفع القادة السياسيون أعينهم إلى أفق المستقبل.

وبحسب الجدول الزمني المعتاد، يجب التقدم بالمُقترحات الأولى في العام المقبل. وبموجب الجدول الزمني المعتاد أيضاً، يستغرق القادة أعواماً للمساومة على أجزاء من المئة من 1 % من الناتج المحلي الإجمالي، وليس على الدور الاستراتيجي الذي يتعين على الموازنة لعبه. وقد أظهر القادة، إبان الجائحة، تفكيراً استراتيجياً، بتأسيسهم صندوق التعافي والمرونة، وهي موازنة منفصلة لمرة واحدة فقط، لكنها كانت بحجم تلك العادية. لذلك، فإن الحاجة للجسارة، لم تنتهِ مع انقضاء الإغلاقات.

إن التخطيط للموازنة التالية متعددة الأعوام، يتعين التخطيط فيها لحقبة تتسم بضروريات استراتيجية كبيرة، ويتحتم أن تكون أكبر بكثير من سابقاتها. ويعود ذلك، جزئياً، إلى الالتزام السياسي تجاه مفاوضات عضوية أوكرانيا. وسيكون وضع ميزانية تمتد إلى 2034، لا تحتوي على انضمام أوكرانيا إلى التكتل بحلول هذا الموعد، بمثابة هدية سياسية لروسيا، علاوة على كونها تخطيطاً مالياً سيئاً.

تحتاج الموازنة أيضاً إلى تلبية مهمة إزالة الكربون ورقمنة الاقتصاد الأوروبي، وكذلك تعزيز قدرة المنطقة على الدفاع عن نفسها. ويتطلب ذلك استثمارات هائلة، لن يُضَخ ما يكفي منها إذا تُرِكَ الأمر للموازنات الوطنية. وبقدر ما تستطيع الموازنات الوطنية إنجاز المهمة، فإن الإعانات المتفاوتة بين الدول الأكثر قوة والأضعف من الناحية المالية من شأنها تدمير تكافؤ الفرص بين المعسكرين.

سيدرك شمال أوروبا عاجلاً أم آجلاً، أنه حينما تكون احتياجات الاستثمار ضخمة، فلن يمكنه أن يكون موفراً وحامياً للسوق الموحدة في آن واحد، مثلما لا يمكنه أن يكون متشدداً من الناحيتين، المالية والدفاعية، حين تدق طبول الحرب على حدوده.

وفي الوقت ذاته، يجب تغيير كيفية إنفاق الأموال. وهناك رسالة واحدة متماسكة من المساهمين الصافيين، مفادها أن الموازنة التالية لا يمكنها أن تكون مجرد «إضافة» أوكرانيا والتحويلات التي ستستتبع هذا التحرك، مع ترك بقية الأمور على ما هي عليه. ومثلما تتغير الأولوية الأساسية من «تضامن» البلدان الثرية مع تلك الفقيرة؛ في مواجهةً التهديدات والتحديات المُشتركة، يجب أن تتغير أيضاً تركيبة الموازنة.

تستغرق صياغة رؤية مشتركة لما يجب على الموازنة إتمامه وقتاً. وكلما تأخر القادة في بلورة رؤية، كلما تضاءلت الفرصة المتاحة لهم للتفكير في كيفية تغيير الأمور على نحو جذري، ناهيك عن الاتفاق على التغييرات ذاتها. وستظل المواقف السياسية القديمة قائمة، وستظل المفاوضات قاصرة على مساومات لإجراء تعديلات صغيرة نسبياً ضمن إطار العمل الحالي.

إن الوقت متاح للتفكير بعمق؛ بسبب الدروس الجديدة أو القريبة من سياسات أخرى، وأحد هذه الدروس يتمثل في المغامرة بموازنات منفصلة. فقد تم طرح اقتراح، مثلاً تمويل أوكرانيا عن طريق حكومات 26 دولة، للتغلب على الفيتو المجري. وعبّدت المجموعة الفرنسية ـ الألمانية، المنوط بها وضع تصورات عن إصلاح المعاهدات، الطريق أمام احتمالية تبني موازنات مُخصصة لأغراض ليس الجميع مستعدين لتأييدها.

وكما أظهر صندوق التعافي والمرونة، الذي يستخدم الاقتراض المُشترك لتمويل المنح والقروض للدول الأعضاء لخدمة المشروعات المُتفق عليها مع المفوضية الأوروبية، فإنه من الممكنة إنجاز الأمور بطرق جديدة. وفي حين لم تكن الخطط الوطنية المُموّلة من الاتحاد الأوروبي خالية من المشكلات، فإن هناك شعوراً بأن الاتفاق المُشترك على المشروعات كان بناءً.

وما زالت المناقشات جارية حول ما إذا كان يجب السعي نحو التوصل لنسخة جديدة من صندوق التعافي والمرونة، وما إذا كان يجب الاحتفاظ بالدين المُشترك المطروح لتمويل النسخة الأصلية بدلاً من سداده. وتُخطئ بلدان الشمال المساهمة الثرية برغبتها في إنهاء هذه النقاشات، عوضاً عن المشاركة في مناقشة المزايا ضمن البحث الأوسع نطاقاً للموازنة.

إن معالم صفقة كبرى بين المساهمين الصافين والمتلقين الصافين واضحة بما يكفي. سينطوي الأمر على موازنة أكبر كثيراً، لكن بتركيبة مختلفة كثيراً أيضاً، إذ سيتحوّل الإنفاق من الأولويات القديمة إلى أخرى حديثة. وستفضّل الصفقة تمويلاً مُشتركاً مباشراً، أو طرق تخصيص على غرار صندوق التعافي والمرونة، على التحويلات والتمويل المُشترك سيراً على النهج القديم. وستركز الصفقة بدرجة أكبر على المنافع العامة لعموم الدول الأوروبية، مثل شبكات الطاقة والمُشتريات الدفاعية، وقد تكون أقل قابلية لإعادة التوزيع على نحو كبير.

وكل عنصر من هذه العناصر بمثابة وبال على بعض البلدان. ولذلك، يجب الاتفاق عليها جميعاً ضمن حزمة، أو لا يُتفق عليها مُطلقاً. ويتمثل دور الحنكة السياسية في الانتقال من الخيار الأخير إلى ذلك الأول. علاوة على ذلك، فإن الحنكة السياسية الديمقراطية تنطوي على إشراك المواطنين في الاتفاق. من المُقرر توجه ناخبي الاتحاد الأوروبي إلى صناديق الاقتراع في غضون خمسة أشهر، وقد حان الآن وقت بدء النقاش عن الموازنة الكبيرة.