هل واجهت يوماً صنبور دش غير منتظم؟ تدره قليلاً فيصبح الماء ساخناً جداً، وإذا قمت بإدارته للجهة الأخرى سيستغرق الماء وقتاً طويلاً حتى يبرد. حسناً، هذا هو التشبيه الذي قيل إن ميلتون فريدمان استخدمه لشرح صعوبة استخدام أدوات السياسة النقدية، التي تتسم بتأخيرات «طويلة ومتفاوتة» لاستهداف التضخم، ويبدو أننا نسينا تحذيرات فريدمان بأن السياسة النقدية أداة بليدة، أو بطيئة.
أولاً، عززت حقبة التضخم المنخفض، من منتصف الثمانينيات وحتى الأزمة المالية العالمية، مصداقية البنوك المركزية، لكن ربما بالغت أيضاً في قوتها.
ثانياً، بعد الانهيار أصبحت الاقتصادات أكثر اعتماداً على واضعي أسعار الفائدة، لتقديم حوافز مالية محدودة، وتم تقديم برامج وأدوات، مثل التيسير الكمي والتحكم في منحنى العائد، والتوجيه المستقبلي، وأدى ذلك إلى زيادة نفوذ البنوك المركزية في الأسواق.
واليوم أصبح التوقع بما يعتزم البنك المركزي القيام به مهنة بدوام كامل، وتشابكت اجتماعات المنتظمة للجان البنك المركزي مع التداول السريع في البورصات المعتمد على اللوغاريتمات، والأخبار المستمرة 24 ساعة، ووسائل التواصل الاجتماعي.
وقال الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد، ريكاردو رايس: «تتغير أسعار الفائدة يومياً، ويرجع ذلك جزئياً إلى توقع ما ستفعله البنوك المركزية بعد ذلك، وهذا ينقل الثروة عبر الأسواق المالية، ويخلق هوساً بالسياسة النقدية، رغم أن التغييرات اليومية البسيطة في أسعار الفائدة لها تأثير ضئيل على التضخم».
وفي الواقع كان من الممكن أن يسجل التضخم مستوى أعلى في يومنا هذا لو لم ترفع البنوك المركزية أسعار الفائدة، لكن هذا التضخم الأخير كان مدفوعاً باضطرابات العرض، التي لا تستطيع أسعار الفائدة حلها بشكل مباشر وسريع.
لقد ارتكب محافظو البنوك المركزية أخطاء في بداية هذه الدورة، ولكن التوقعات المعلقة عليها كانت مرتفعة للغاية من البداية.
تؤثر السياسة النقدية على الطلب بصورة غير دقيقة، كما يؤثر تغيير سعر الفائدة أو إدارة الميزانية العمومية على أسعار السوق المالية، ومن ثم يكون لذلك تأثير غير مباشر على تكلفة الائتمان بالنسبة للاقتصاد الحقيقي، لكن الآلية نادراً ما تكون سلسة وتختلف تبعاً للسياق الكلي، وقد سلطت دورة الفائدة الضوء على ذلك.
أولاً، أدى زيادة القروض ذات الفائدة الثابتة- والمدخرات خلال جائحة «كوفيد 19»، إلى إعاقة تأثير رفع أسعار الفائدة، وفي المملكة المتحدة انخفضت حصة الرهون العقارية ذات الفائدة المتغيرة من 70 % إلى 15 % في العقد المنتهي عام 2022، وفقاً لشركة «كابيتال إيكونوميكس».
وفي أمريكا كانت القروض العقارية ذات الفائدة الثابتة لمدة 30 عاماً أمراً شائعاً لفترة طويلة، لكن حصة القروض الجديدة ذات الفائدة القابلة للتعديل انخفضت بصورة حادة منذ الثمانينيات.
كما انخفض إصدار سندات الشركات الأمريكية ذات سعر الفائدة المتغيرة من نحو 30 % قبل الأزمة المالية، خلال عامي 2007 - 2008، إلى نحو 15 % الآن، حسبما أفادت شركة «كابيتال إيكونوميكس». ثانياً، لم يكن منحنى فيليبس، الذي يصاحب فيه انخفاض التضخم ارتفاع معدلات البطالة، موثوقاً في هذه الدورة. كما اتسم سوق العمل في مرحلة ما بعد الجائحة بالغرابة بسبب مزيج من انخفاض معدلات المشاركة، وتغير تفضيلات العمل، وتراكم العمالة، وهذا يمكن أن يفسر مرونة سوق العمل في مواجهة ارتفاع معدلات الفائدة.
ثالثاً، أضافت توقعات السوق مزيداً من التعقيد، فقد تراجع مؤشر «جولدمان ساكس» للظروف المالية الأمريكية، وهو مؤشر لقياس تشديد السياسة المالية، إلى مستويات صيف 2023.
وأدت فكرة أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وصل إلى الذروة في رفع سعر الفائدة إلى ارتفاع أسواق الأسهم والسندات، وهذا يؤثر في النشاط الاقتصادي الحقيقي أيضاً، حيث يدعم خفض أسعار الفائدة التعافي في سوق الإسكان.
هذه العوامل قللت فعالية السياسة النقدية في هذه الدورة، وقد تستمر، والنتيجة النهائية هي أن المعدلات تحتاج إلى الارتفاع لتحقيق تأثير اقتصادي بعينه، وتأخرها، الذي يقدر غالباً بين 18 إلى 25 شهراً، يستغرق وقتاً أطول.
ويقول كبير الاقتصاديين البريطانيين في «دويتشه بنك» سانجاي راجا، إن هذا يخلق مزيداً من التذبذب وخطر حدوث أخطاء. وأضاف «نحن نقدر أن نحو 70 % فقط من زيادة سعر الفائدة في المملكة المتحدة يتسرب إلى الاقتصاد»، ويعتقد راجا أن لجنة السياسة النقدية التابعة لبنك إنجلترا «تواجه خطر الإفراط في تشديد السياسة». ومن الدروس الأخرى المستفادة أن فعالية السياسة النقدية تعتمد كذلك على العوامل الاقتصادية الهيكلية، التي تحيط بها. ففي النهاية كان عصر التضخم المعتدل قبل الأزمة المالية مدعوماً بمرونة الإنتاج وإمدادات الطاقة.
وبالنظر إلى المستقبل فإن الاعتماد على معدلات فائدة متغيرة تستغرق وقتاً للتأثير على الطلب، هو وصفة للتقلبات، لاستمرار صدمات العرض نتيجة الأحداث الإقليمية، والجغرافيا السياسية، وتغيرات ديموغرافية أقل دعماً، ما لم تكن هناك مكاسب تعويضية من الإنتاج. وكما أشار فريدمان فمن المؤكد أن الاعتماد على السياسة النقدية سيفاقم الدورة الاقتصادية بدلاً من تحسينها، ويجب أن تحظى السياسة المالية وسياسة العرض بقدر أكبر من التركيز في النقاش حول استقرار الأسعار، وعلى أي حال فإن الصنبور المعطوب بلا فائدة إذا كانت هناك مشكلة في السباكة.