قد نشعر في كثير من الأحيان بأننا نعيش في عالم أصبح من المستحيل فيه أن نتشارك مجموعة من الحقائق والقناعات. وهذا نتيجة، إلى حد كبير، لخوارزميات شبكات التواصل الاجتماعي، التي تودعنا فقاعات وحجرات صدى، تجعلنا جميعاً منقسمين ومنعزلين عن بعضنا البعض.

أضف إلى ذلك بزوغ الذكاء الاصطناعي التوليدي القوي، وكذلك الأرض الخصبة التي يتيحها الإنترنت لانتشار المعلومات المُساء تفسيرها أو المضللة، وقد يبدو أحياناً وكأننا نتجه صوب وضع لا يتسنى لنا فيه أي شعور مُشترك بالواقع على الإطلاق.

إنه احتمال مخيف، ويبدو أنّا قطعنا شوطاً بالفعل في هذا الاتجاه. لنأخذ، على سبيل المثال، الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2020، التي ما زال عدد كبير من الأمريكيين يعتقدون في أنها «سُرِقَت». وأظهر استطلاع أجرته «مونماوث» في يونيو الماضي، أن 21 % فقط من الجمهوريين و93 % من الديمقراطيين، يعتقدون في فوز جو بايدن بالانتخابات بنزاهة.

بإمكاننا رؤية فجوات مماثلة على كافة الأصعدة، ما بين فعالية أقنعة الوجه والإغلاقات في منع انتشار فيروس «كورونا»، إلى أزمة المهاجرين في الولايات المتحدة والحرب في غزة. نتحدث هنا، ليس فقط عن الانقسامات من حيث ما هو صحيح وخاطئ من الناحية الأخلاقية، بل أيضاً عما هو حقيقي وليس حقيقي.

وفي هذه الأوقات العصيبة، يبدو أن الكثيرين يعتقدون في أن الفوز بالنقاش يتطلب إنكار وجود أي صحة من الأساس بحُجة الطرف المقابل. يمكن للمرء أن يرى هذا النوع من التفكير حوله.. في وسائل الإعلام، والسياسة، وفي الخطاب العام على نطاق أوسع، ويدفعنا ذلك إلى اتخاذ مواقف أكثر تشدداً واستقطاباً.

وخلال الأسبوع الماضي، صدر تقرير عن وزارة العدل الأمريكية، أعده المستشار الخاص روبرت هور، وصف فيه الرئيس بايدن بأنه «مُسن»، ويعاني «قدرات متناقصة»، لكن هرع الكثيرون إلى التهوين مما خَلصَ إليه التقرير، وليس فقط فريق إدارة بايدن نفسه.

ونشرت «نيويورك تايمز» تقريراً، عنونته: «علماء: فقدان الذاكرة يتطلب تشخيصاً حذراً»، أسهبت خلاله في شرح أن مثل هذا «التشخيص»، يتطلب «تقييماً طبياً دقيقاً». وبالمثل، نشرت «إن بي سي» تقريراً، استند إلى مقابلات مع أطباء أعصاب، أفاد بأن «نسيان الأسماء لا يكشف الكثير في واقع الأمر عن المشكلات المُحتملة المتعلقة بالذاكرة».

لقد نعت هور، بايدن، بأنه «مسن»، وانتقد ذاكرته، لكن ليس الأمر كما لو أنه ادعى بأن الرئيس يعاني الخرف، ولم يقل إن مشكلات الذاكرة تجعله غير كفء للحكم. لذلك، فإن الحديث عما خَلصَ إليه، باعتباره «تشخيصاً»، يُعد مبالغة. وهذا الأمر على شاكلة الأمور التي تجعل الناس يعتقدون في أن الصحافيين لا يمكن الوثوق بهم، في توفير تغطية إخبارية غير متحيزة، وهو أيضاً ما دفع بالثقة في وسائل الإعلام إلى مستويات متدنية قياسية.

ومع ذلك، تكمن المشكلة في أنه ليس الجميع على قناعة بأن هؤلاء منا ممن لديهم منصة، عليهم تقديم الحقيقة، سواء العاملون في الإعلام أو السياسة أو الأكاديميون، أو غيرهم من الشخصيات العامة. وكنت قد كتبت مقالاً في الأسبوع السابق للانتخابات في 2020، جادلت فيه بأن البعض في فضاء الإعلام، أو «مدققي الحقائق»، على وجه الخصوص، لم يكونوا صادقين في حديثهم عن القدرات الإدراكية لبايدن حينها. وقد تواصل معي أحد معارفي في الولايات المتحدة بعد نشر المقال، وأخبرني بتعرضه للتوبيخ من جانب أحد أصدقائه، لمشاركته المقال على وسائل التواصل الاجتماعي، والسبب، حد قوله، أن «المخاطر مرتفعة للغاية».

لكن صديقه كان محقاً بشأن أمر واحد، هو أن المخاطر مرتفعة للغاية للاستمرار على هذا المنوال المُتشظى. وقد توصل استطلاع في 2022، إلى أن أكثر من 2 من بين كل 5 أمريكيين، يعتقدون في أن نشوب حرب أهلية، أمر مُرجح الوقوع على الأقل في العقد التالي، مستندين في ذلك إلى الانقسامات السياسية. وذكر تقرير صادر عن «يوراسيا غروب» في يناير، أن الانتخابات الرئاسية التالية، بمثابة أكبر خطر سياسي على العالم في 2024. وكتب المحللون: «الولايات المتحدة الأمريكية، هي أكثر الديمقراطيات الصناعية المتقدمة انقساماً واختلالاً بالفعل»، وأضافوا: «إن انتخابات 2024، ستفاقم هذه المشكلة، بغض الطرف عمن سيفوز».

ومن مُنطلق الحُجة التي أتبناها هنا، عليّ الاعتراف بأن الأمور ستصبح أكثر تعقيداً عند تعاطينا مع أكذوبة مُتعمدة، لُفِّقت وانتشرت، باعتبارها سلاحاً سياسياً، ويؤمن بها حالياً عدد كبير من الأشخاص، مثل «سرقة» انتخابات 2020. إننا حقاً لا نرغب في إضفاء الشرعية على مثل هذا التضليل. ولكن حتى في ضوء مثل هذه الأوضاع، من الأهمية بمكان، إيجاد أشياء نتفق عليها. لا، لم تُسرق الانتخابات، لكن صحيح أنه كان هناك عدد ضئيل من وقائع التزوير الانتخابي، وهي تقل عن 475 حالة مُحتملة، بحسب تقرير صادر عن «أسوشيتد برس».

إذا كان بمقدورنا إثبات أننا أخذنا كافة الحقائق في اعتبارنا، بغض الطرف عن مدى كونها غير سارة أو غير مريحة، فلن يجعل ذلك من حُججنا أكثر إقناعاً فحسب، بل سيتيح لنا أيضاً الاقتراب من الحقيقة، والتي غالباً ما لا تكون في حوزتنا على نحو لا نعترف به. إن فعل ذلك، سيجعل من اختلافاتنا أقل تسبباً للأذى، بل ستكون مثمرة على نحو أكبر. ومن واقع خبرتي، فعندما تمنح الآخر فرصة، سيمنحك هو الآخر بدوره فرصة في المقابل.