شكّلت حركة السياسة النقدية الأسبوع الماضي تحولاً بعيداً عن الاستهداف الصارم للتضخم

لن أفاجأ إذا تناولت كتب التاريخ الاقتصادي في المستقبل الأسبوع الماضي في المصارف المركزية، بوصفه نقطة تحوّل نحو الابتعاد عن الاستهداف الصارم للتضخم، من قبل البنوك المركزية الأكثر نفوذاً في العالم.

ورغم أن هذا التحول لا يخلو من الشكوك أو المخاطرة، إلا أنه سيتسق مع نتائج اقتصادية أعلى، ويحظى بفرصة معقولة للنجاح. وهي سياسة يرجح أن تكون أكثر تفوقاً من غيرها، حيث تتعامل البنوك المركزية مع بيئة تشغيل متقلبة بشكل خاص، اقتصادياً وسياسياً، وعلى الصعيدين المحلي والعالمي.

وليس من المعتاد أن ترى بنكاً مركزياً حسن السمعة، يعدل توقعاته بشأن التضخم والنمو، وفي الوقت نفسه، يعزز ميله تجاه تيسير السياسة النقدية. رغم ذلك، هذا ما حدث في واشنطن الأسبوع الماضي، حيث رفع الاحتياطي الفيدرالي تلك التوقعات إلى أعلى درجة، لكنه أرسل إشارتين هامتين، هما: الاستعداد لتحمل ارتفاع معدل التضخم لفترة أطول، والانفتاح على إبطاء التخفيض المستمر في ميزانيته العمومية.

ورداً على هذه الإشارات بتأني السياسة النقدية، دفعت الأسواق أسعار الأسهم والذهب للارتفاع إلى مستويات قياسية. إضافة إلى ذلك، ارتفعت أسعار السندات، حيث زاد شعور المتداولين بالثقة بأن الاحتياطي الفيدرالي قد يخفض أسعار الفائدة، ربما بحلول شهر يونيو، رغم أن تقارير التضخم جاءت أعلى من المتوقع لشهري يناير وفبراير.

وبرر رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جاي باول، موقف البنك المركزي بقوله، إن تقارير التضخم كانت «تقريباً نفسها»، رغم أن هذه البيانات وزيادة تقديراته لتوقعات التضخم.

إلا أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لم يكن البنك المركزي الوحيد الذي اعتبرته الأسواق متساهلاً بشكل غير متوقع. فقبل يومين من الاحتياطي الفيدرالي، اختتم بنك اليابان أول زيادة في أسعار الفائدة منذ 17 عاماً، لكن بنهج حذر. لذلك، ورغم إعلان بنك اليابان أيضاً إنهاء سياسة وضع حد أقصى لعوائد السندات، إلا أن الين تراجع مقابل الدولار، بدلاً من الارتفاع، بناء على الأخبار التي تفيد بأن اليابان أصبحت آخر بنك مركزي يحرك أسعار الفائدة الاسمية إلى المنطقة الإيجابية.

وجعل ارتفاع التضخم في اليابان بأكثر من المتوقع «الزيادة التيسيرية» أكثر وضوحاً، ما دفع العملة قرب أدنى مستوى لها في 32 عاماً. ولم تتوقف مفاجآت البنك المركزي الحذرة عند هذا الحد. ففي اليوم التالي لاجتماع بنك الاحتياطي الفيدرالي، خفض البنك الوطني السويسري فجأة أسعار الفائدة، وأدى ذلك إلى خفض قيمة عملته قرابة 1 %.

والآن، يمكن شرح كل هذه التحركات حسب العوامل الخاصة بكل بلد. ودون شك، واستناداً إلى تفريق ذكي سمعته قبل سنوات من زميلي السابق في شركة «بيمكو»، أندرو بولز، فإن إجراءات البنك المركزي الأسبوع الماضي كانت مترابطة وليست منسقة.

ومع ذلك، فهي تتسق مع تحول أكبر في نموذج الاقتصاد الكلي، وستضطر البنوك المركزية في نهاية المطاف إلى اعتماده بشكل صريح. ويبدو أننا نحصل على إشارة جديدة كل أسبوع، تفيد بأن جانب العرض في الاقتصاد العالمي يعمل بمرونة أقل من ذي قبل، والأهم من ذلك، يعمل بأقل من اللازم.

وتتنوع الأسباب بين الجمود الاقتصادي، والتحولات الهيكلية، إلى الصدمات الجيوسياسية، وإعطاء الأولوية للأمن القومي على حساب الاقتصاد في تحديد الاستثمارات الرئيسة العابرة للحدود والتكنولوجيا، والعلاقات التجارية. نتيجة لذلك، فإن جانب العرض يصعب خفض معدلات التضخم بسرعة إلى 2 %، والبقاء عليها دون إلحاق ضرر لا داعي له بالرفاهية الاقتصادية والاستقرار المالي.

لا تسئ فهمي. لن نحصل على تصريحات مهمة تتعلق بتغيير مستهدفات التضخم، خاصة أن البنوك المركزية فشلت في تحقيق أهدافها بشكل كبير، بعد أن أخطأت في وصف التضخم بأنه «مؤقت» قبل ثلاث سنوات. وبدلاً من ذلك، سيكون تقدماً بطيئاً بقيادة بنك الاحتياطي الفيدرالي. وستدفع البنوك المركزية في البداية بتعديل التوقعات بشأن الإطار الزمني لهدف الـ 2 %. ثم، بعد ذلك، الانتقال إلى هدف للتضخم يستند إلى نطاق يتراوح بين 2 - 3 %.

وسيرى البعض ذلك على أنه يزيد من تقويض مصداقية البنك المركزي، وتهديداً لصحة توقعات التضخم. وسيشيرون إلى التجربة المروعة في السبعينيات، عندما أعلن محافظو البنوك المركزية مسبقاً نجاحهم في السيطرة على التضخم، وفوجئوا بعودة معدلات التضخم للارتفاع مرة أخرى، وتطلب ذلك فرض ركود ضخم لإحكام السيطرة عليه بشكل دائم.

ويشكل هذا الاحتمال مخاطرة ضئيلة، لكنها مقبولة، في ضوء الارتفاع المحتمل للرفاهية الاقتصادية الشاملة. وسيكون فعالاً بشكل خاص حال اقترانه بإجراءات حكومية أخرى، لزيادة تعزيز مرونة جانب العرض، ويشمل ذلك التركيز على زيادة مشاركة القوى العاملة، وتحسين إعادة تأهيل المهارات، وتحسين البنية التحتية، وتكوين المزيد من الشراكات بين القطاعين العام والخاص، لتعزيز محركات النمو في المستقبل، لا سيما في الذكاء الاصطناعي التوليدي، وعلوم الحياة والطاقة النظيفة.