عندما تصدر أمريكا تقرير الناتج المحلي الإجمالي في وقت لاحق من الشهر، فمن المتوقع أن يسجل نمواً بوتيرة قوية لا تقل عن 2 %، للربع السابع على التوالي، متجاوزاً ما كان توقعاً عالمياً بأن قيام الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة سيوقد شرارة الركود. في البداية، عدل خبراء الاقتصاد توقعاتهم إلى «الهبوط الناعم»، والآن يتحدثون عن «عدم الهبوط».

لقد كانت نماذج التوقعات المألوفة غير دقيقة أكثر من المعتاد خلال فترة التعافي بعد الوباء. لكن لماذا؟ ربما التفسير الأكثر سهواً للمرونة الأمريكية هو أن الولايات المتحدة، على عكس العديد من الدول المتقدمة الأخرى، واصلت تحفيز اقتصادها كما ينبغي بعد انتهاء الركود في عام 2020.

ولا يزال بعض هذا التحفيز، المالي والنقدي، يتدفق خلال النظام، ما يبقي النمو عند مستويات مرتفعة بشكل مصطنع ويضخم أسعار المستهلكين والأصول. فبعد تفشي الجائحة، أطلق الرئيسان دونالد ترامب وجو بايدن قرابة 10 تريليونات دولار كنفقات جديدة، منها 8 تريليونات بعد الركود قصير الأجل الناجم عن عمليات الإغلاق في بداية 2020. وكان إنفاق الحكومة الأمريكية عند مستوى سنوي أعلى من مستويات ما قبل الوباء بنحو تريليوني دولار، وفي طريقه لتسجيل أرقام قياسية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.

في الوقت نفسه، كان بقية العالم المتقدم يسير في اتجاه مختلف. وفي السنوات التي انقضت منذ بداية الجائحة، ارتفع العجز المتزايد إلى 40 % من الناتج المحلي الإجمالي في أمريكا، أي ضعف المتوسط في أوروبا، وأعلى بمقدار الثلث في المملكة المتحدة.

وبحسب بعض التقديرات، شكل التحفيز المالي أكثر من ثلث النمو في أمريكا خلال عام 2023؛ ومن دونه، لن تبدو الولايات المتحدة وكأنها أعجوبة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة الأخرى.

والأمر الذي لا يحظى بالتقدير الكافي، أكثر من التعزيز الناتج عن الإنفاق الحكومي الجامح، هو الطريقة التي كان النمو النقدي يشحن بها الاقتصاد والأسواق المالية. فقد أنشأ الاحتياطي الفيدرالي الكثير من الأموال خلال فترة الجائحة لدرجة أن الاقتصاد لم يستوعب الفائض بالكامل حتى الآن وفقاً لبعض المقاييس.

ولا يزال المعيار الواسع للكتلة النقدية المعروفة بـ «إم 2»، والذي يشمل النقود المودعة في حسابات سوق المالية والودائع البنكية، إضافة إلى أشكال أخرى من التوفير، تتجاوز بكثير مستويات ما قبل الجائحة. وفي أوروبا والمملكة المتحدة، حيث كان التحفيز أقل حدة، انخفض «إم 2» مرة أخرى دون المستوى.

وقد أسهمت هذه السيولة في مواجهة رفع أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي وساعدت في تفسير السلوك الحالي لأسعار الأصول. فقد ارتفعت أرباح الشركات، بفضل النمو القوي للناتج المحلي الإجمالي، ولكن أسعار الأسهم، ناهيك عن البيتكوين والذهب وغيرهما، ارتفعت بوتيرة أسرع. هذا المزيج الغريب، من ارتفاع تقييمات الأسهم المرتفعة أساساً رغم ارتفاع أسعار الفائدة، لم يحدث في أي فترة من فترات تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي منذ أواخر الخمسينيات.

وثمة ارتفاع مماثل في سوق الإسكان الأمريكي؛ فرغم ارتفاع معدلات الرهون العقارية، ارتفعت الأسعار بانتظام وبسرعة أكبر من الدول المتقدمة الأخرى. ومنذ عام 2020، ارتفع إجمالي صافي ثروات الأسر الأمريكية بنحو 40 تريليون دولار إلى 157 تريليون دولار؛ بفضل أسعار المنازل والأسهم. وبالنسبة للفئات الميسورة، يعد «تأثير الثروة» تحولاً سعيداً، حيث يخطط مزيد من الأمريكيين لقضاء عطلتهم في الخارج هذا الصيف مقارنة بأي وقت مضى منذ بداية السجلات في الستينيات. وبالنسبة للأقل ثراء، الذي يقضون الصيف محلياً، ولا يملكون منزلاً ويكونون عادة أصغر سناً، فإن هذه الظروف أقل بهجة.

وبالطبع، ثمة تفسيرات منطقية أخرى لقدرة الولايات المتحدة على التحمل، بما في ذلك ارتفاع معدلات الهجرة وطفرة الذكاء الاصطناعي. إضافة إلى ذلك، يدفع العديد من المقترضين الأمريكيين أسعار فائدة ثابتة ولن يتأثروا بارتفاعها إلا عند الحاجة إلى إعادة تمويل قروضهم. في حين تجذب الحوافز الحكومية الجديدة استثمارات بالمليارات إلى الصناعات المدعومة، بداية من التقنيات الخضراء إلى رقائق الكمبيوتر.

وما يبدو واضحاً الآن أنه: مع ارتفاع أسعار المستهلك وأسعار الأصول في الولايات المتحدة أكثر من نظيراتها، فإن الاقتصاد محموم، ولم يعد لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي مجال لخفض الفائدة عن المتوقع. وإذا استمر ارتفاع أسعار الفائدة لفترة طويلة، فقد تواجه الولايات المتحدة متاعب أسوأ إذا استمرت في إدارة عجز يقترب من 6 % من الناتج المحلي الإجمالي؛ ويمثل ذلك ضعف المتوسط قبل الجائحة في الولايات المتحدة، و6 أضعاف المتوسط في غرب أوروبا. ولا يمكن للولايات المتحدة تحمل هذه التحفيزات القوية لأجل غير مسمى، كما أن الإنفاق الحكومي بدأ يتباطأ.

رغم ذلك، فإن الاقتصاد أبعد ما يكون عن العلم الدقيق، ومن الصعب معرفة متى ستتبدد تأثيرات التحفيز السابق. ولكن فور حدوث ذلك، قد يحدث الهبوط بوتيرة أسرع مما يوحي به أي نموذج تقليدي الآن.

الكاتب هو رئيس «روكفلر إنترناشيونال»