بعد أن سجلت الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري أعلى معدل في 175 سنة

صيف ساخن يقلب أسواق السلع العالمية رأساً على عقب

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشهد شعوب العالم حالة من الفوضى الناجمة عن درجات الحرارة المستمرة في تحطيم الأرقام القياسية، في وقت يُتوقع أن يزداد الأمر سوءاً.

تتزايد احتمالات أن يصبح العام الجاري الأعلى حرارة في التاريخ مع اقتراب نصف الكرة الشمالي من فصل الصيف. تواصل أسعار بعض السلع الأساسية العالمية مثل الغاز الطبيعي والطاقة والمحاصيل الأساسية من بينها القمح وفول الصويا، الارتفاع. سيواجه عالم الشحن على الأرجح -يشهد فعلياً فوضى تمتد من البحر الأحمر إلى قناة بنما- مزيداً من الاضطرابات مع انخفاض منسوب الممرات المائية جراء الجفاف. تزداد أيضاً احتمالات نشوب حرائق غابات مدمرة.

الطقس القاسي

تشكل هذه التوقعات تذكيراً محزناً بمدى تفاقم معدل التضخم بسبب الطقس القاسي الناجم عن التغير المناخي، ما يرفع تكلفة الطاقة والغذاء والوقود. تزيد الكوارث الطبيعية المتكررة كذلك خطر الأضرار المدمرة وتكاليف التأمين، ما يُصعب التنبؤ بتحركات السوق. خلال السنة الماضية، أسفرت الظروف الجوية القاسية والزلازل عن وقوع خسائر عالمية 250 مليار دولار، بحسب شركة «موينخ ري» (Munich Re).

يتنبأ بعض الخبراء بحدوث قفزة لأسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة الأمريكية تفوق 50 %، في حين من المنتظر أيضاً أن تصعد أسواق القمح والبن.

وعالمياً، كانت الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري هي الأعلى حرارة خلال 175 سنة، بحسب المراكز الوطنية للمعلومات البيئية. سيُصنّف العام الجاري بالتأكيد ضمن أعلى خمسة أعوام حرارة في التاريخ، ومن المحتمل بنسبة 61 % أن يتجاوز 2023 باعتباره أشد الأعوام حرارة، وفق تحليل الوكالة الأمريكية.

ما يزيد الطين بلة أن ارتفاع حرارة المحيطات لمستويات قياسية يهدد بإثارة نشاط هائل للأعاصير الاستوائية. ستفاقم ظاهرة «إل نينيو» -نمط طقس من المنتظر أن يسود خلال أغسطس المقبل- نشاط الأعاصير في المحيط الأطلسي، بينما ينجم عنها ظروف الجفاف بمنطقتي غرب وجنوب الولايات المتحدة الأمريكية.

قال إدوارد موريس، المستشار الأول في شركة «هارتري بارتنرز» (Hartree Partners) والرئيس السابق لوحدة بحوث السلع الأساسية في «سيتي غروب»: «بالنسبة للاقتصاد العالمي وأسواق النفط، فإن الخطر الأكبر لا يتمثل في الأزمة الروسية الأوكرانية أو إيران أو الحرب بين حماس وإسرائيل. تأتي أكبر مخاطر الصيف -على مستوى العالم بأسره- من موسم الأعاصير بمنطقة خليج المكسيك».

فيما يلي نستعرض الأسواق التي من المحتمل أن تعاني تقلبات بأكبر قدر:

توقعات بارتفاع أسعار الغاز

قال غاري كنينغهام مدير وحدة بحوث السوق في شركة «تراديشن إنرجي» (Tradition Energy) إن أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة الأمريكية قد ترتفع إلى 4 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في وقت لاحق من السنة الجارية إذا زادت درجات حرارة الطقس العالية من استعمال أجهزة التكييف لدرجة أن تقلص المخزون الذي يتمتع بالوفرة في الوقت الحالي. بغضون ذلك، تخفض الشركات المنتجة الإنتاج من أحواض النفط الصخري للتعامل مع الأسعار المتراجعة نسبياً، ما يمهد لنقص أكبر بالمعروض بالسوق.

وتتنافس أوروبا التي لم يعد يمكنها الاعتماد على الإمدادات الروسية في أعقاب غزو أوكرانيا، حالياً مع آسيا على شحنات تصدير الغاز الطبيعي المسال من البلدان المصدرة مثل الولايات المتحدة وقطر ونيجيريا. كانت الصناديق الاستثمارية أشد تفاؤلاً تجاه الغاز الطبيعي الأوروبي مقارنة بفترة ما قبل أزمة نقص الطاقة، ما يدل على وجود قلق متزايد إزاء ندرة أكبر للإمدادات.

وقالت جنيفر فرانسيس، وهي واحدة من كبار علماء مركز بحوث المناخ في «وودويل»: «سيشهد صيف العام الجاري قطعاً موجة من موجات الحر المؤثرة سلباً على القدرة على العمل، لا سيما في القطاع الأوسط الأمريكي وأوروبا».

دفعت درجات الحرارة العالية في جنوب شرق آسيا منذ أبريل الماضي التجار بالمنطقة إلى زيادة شحنات تصدير الغاز. كذلك خيم الطقس الحار على مصر، ما اضطر البلد الشمال أفريقي -عادة ما تكون دولة مصدرة- لشراء الغاز الطبيعي المسال. وبحسب الرئيس التنفيذي لشركة «بترونت إل إن جي» (Petronet LNG) أكشاي كومار سينغ، فإن الظروف الجوية شديدة الحرارة التي تجتاح الهند تزيد الطلب على الوقود من قطاع الكهرباء.

 وعلى صعيد أوروبا وآسيا، قد تتضافر مجموعة عوامل سلبية بداية من الحرارة الشديدة والاضطرابات الناتجة عن الأعاصير إلى الصادرات الأمريكية، والجفاف المتفاقم الذي يدمر الكهرباء المولدة من مصادر المياه في أمريكا اللاتينية، لترفع أسعار الغاز بنسبة تتراوح بين 50 % و60 % مقارنة بالمستويات الحالية، حسبما بيّن محللو «سيتي غروب» أبريل الماضي.

انقطاع التيار الكهربائي

تواجه أسواق الكهرباء خطراً مشابهاً من ارتفاع الطلب. تختبر درجات الحرارة المرتفعة عبر كافة مناطق ولاية تكساس الشبكة العامة بالولاية، إذ صعدت أسعار الكهرباء الخاصة بشهر أغسطس المقبل مؤخراً متجاوزة 200 دولار لكل ميغاواط/ساعة، في أعلى مستوى منذ 2022 في هذا الوقت من السنة. هناك مخاطر هائلة لزيادة الأسعار، حيث صعدت الأسعار بما يفوق 800 % في أغسطس الماضي وسط درجات حرارة عالية. كانت الولاية الأمريكية عرضة لانقطاع التيار الكهربائي بصورة متكرر على نطاق واسع خلال فصلي الصيف الماضيين.

 وأشار شون كيلي الرئيس التنفيذي لشركة «أمبيرون هولدينغز» (Amperon Holdings)، وهي الشركة التي تقدم التوقعات حول استخدام الكهرباء لولاية تكساس وشبكات أخرى، إلى أنه «عندما تكون الأوضاع سيئة، فإن التأثيرات تكون سيئة للغاية».

 وبالنسبة لأوروبا، قد تدفع درجات الحرارة الحارقة لإغلاق بعض المحطات النووية الفرنسية، والتي توفر نحو 70 % من توليد الكهرباء بالبلاد. يرجع ذلك إلى أن العديد من المفاعلات يعتمد على مياه الأنهار في عمليات التبريد، وعندما تكون درجات حرارة المياه عالية بشدة، يمكن أن تجبر القواعد البيئية لحماية الحياة المائية المرافق على الإغلاق مؤقتاً.

تهديد التضخم

ستواصل توقعات أسعار السلع المرتفعة باستمرار إحباط معركة الاحتياطي الفيدرالي ضد ارتفاع الأسعار وتفاقم خطر بقاء أسعار الفائدة العالية لمدة طويلة. تشكل التوقعات أيضاً مصدر قلق للرئيس الأمريكي جو بايدن قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستكون تكلفة المعيشة موضوعاً مهماً فيها بالنسبة للناخبين.

في غضون ذلك، يُرجح أن تضغط درجات الحرارة المرتفعة على الاقتصاد الأمريكي بواسطة كبح إنتاجية عمال البناء والحد من الاستثمار الرأسمالي، بحسب دراسة من بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو. أثبتت الدراسة أنه دون بذل جهود على نطاق واسع لتخفيض الانبعاثات الكربونية، فإن الزيادات المستقبلية في الحرارة العالية ستقلص أرصدة رأس المال، أو قيمة الاستثمار المتراكم، بنسبة 5.4 % والاستهلاك السنوي بنسبة 1.8 % بحلول عام 2200.

أزمات الإمدادات

تمثل أزمات الإمدادات أكبر تهديد بالنسبة لأسواق السلع الزراعية. وصلت العقود المستقبلية للقمح إلى أعلى مستوياتها منذ يوليو الماضي، وقلصت الصناديق عقود البيع على المكشوف التي احتفظت بها لمدة عامين تقريباً. تدفع ظروف الجفاف في روسيا -البلد المُصدر الرئيسي عالمياً- المحللين إلى تخفيض تقديرات حجم المحصول. وأبطأت معدلات هطول الأمطار فوق المعتادة العمل الميداني بمنطقة غرب أوروبا، في حين تهدد الهجمات على البنية التحتية الزراعية في أوكرانيا صادراتها.

في أمريكا الشمالية، تعاني أغلب مناطق كانساس، وهي أكبر ولاية منتجة للقمح في الولايات المتحدة الأمريكية، من جفاف حاد. إلى حد الآن، تُبين التقديرات من جولة فحص محصول السنة الحالية أن إنتاج حقول القمح بالولاية سيفوق 2023، عندما كان الجفاف شديداً، حتى أن حقولاً عديدة لم تُحصد. رغم ذلك، ومع بقاء ما يتجاوز الشهر على جاهزية الحقول للحصاد، فإن الطقس الجاف بدرجة أشد أو درجات الحرارة الحارقة يعني جني محصول أقل من هذه التوقعات.

قال ديف غرين نائب الرئيس التنفيذي لمجلس جودة القمح، وقائد جولة فحص المحاصيل: «ينبغي أن يبدأ هطول المطر سريعاً للوصول لهذه الأرقام».

كانت الظروف الجوية القاسية واحدة من عوامل زيادة أسعار الكاكاو بطريقة هائلة، وتتعرض أسواق البن في الوقت الراهن لمخاطر مشابهة. يمكن أن تصعد العقود المستقبلية للبن من نوع «أرابيكا» -الحبوب عالية الجودة المفضلة من قبل شركات من بينها «ستاربكس»- 30 % لتبلغ 2.60 دولار للرطل خلال الشهور القليلة المقبلة إذا استمرت الأحوال الجوية غير المناسبة بجانب مشكلات الإنتاج في البرازيل وفيتنام، وإذا واصل مديرو الأموال عمليات الشراء المكثفة.

سوق النفط

يمكن أن تؤثر درجات الحرارة الشديدة على سوق النفط بالكامل، بداية من الإنتاج وصولاً إلى أعمال الشحن والتكرير.

خلال السنة الماضية، دفع أسوأ موسم حرائق في كندا على الإطلاق شركات التنقيب عن النفط والغاز إلى إيقاف إنتاج يبلغ 300 ألف برميل يومياً. خلال 2023، تجاوزت الحرائق بصورة كبيرة المنطقة الأساسية للإنتاج بالبلاد، لكن يمكن أن تكون تداعيات السنة الجارية هائلة. مع نهاية أبريل الماضي، كانت 63 % من البلاد جدباء بصورة غير اعتيادية أو تعاني من الجفاف، بحسب مركز رصد الجفاف في أمريكا الشمالية، ما ينجم عنه ظروف مواتية لاندلاع الحرائق.

يمكن أن تعطل درجات الحرارة العالية عمليات التكرير، لتضع وحدات العمليات التشغيلية تحت ضغط، وتؤثّر على إمكانية الحفاظ على استقرار درجات الحرارة الداخلية. ستُغلق المصافي بالكامل في حالة وجود أحمال زائدة على شبكة الكهرباء وخسارة المرفق للكهرباء. ينذر الطقس الحار أيضاً بتعطيل خطوط أنابيب نقل النفط الخام نتيجة تكوين البخار داخلها. يستعد بعض التجار لما يفترض أن يكون موسم أعاصير قوياً بصورة استثنائية، ما يمثل تهديداً آخر لمصافي النفط.

منظومة الشحن

قد تتأثر عمليات الشحن بالناقلات أيضاً، حيث من المحتمل أن يسبب الجفاف مشكلات في عبور ممرات مياه رئيسية مثل قناة السويس، وقناة بنما تحتاج حتى نهاية العام لتتعافى من الجفاف.

شهد نهر الراين -أكثر الممرات المائية التجارية أهمية في أوروبا لنقل كل شيء بداية من الديزل إلى الفحم داخلياً من ميناء روتردام العملاق في هولندا- مستويات منخفضة قياسية للمياه خلال السنوات الأخيرة.

وأشار كارل نيل، كبير محللي الطاقة في شركة «ستون إكس غروب» (StoneX Group) إلى أنه يُنتظر أن يواصل تجار السلع الأساسية مراقبة تهديدات الطقس القاسي خلال الشهور المقبلة.

اختتم نيل: «يرتبط الغموض بحدوث التقلبات». مضيفاً: «كيف ستؤثر درجات الحرارة على المحاصيل الصيفية؟ وإلى أي مدى ستتنافس طلبات التبريد مع تعزيز مخزون الغاز الطبيعي؟ ستبدأ السوق في تقدير تأثير هذا الغموض على الأسعار».

Email