على مدى السنوات الـ 15 الماضية بات اقتصاد بريطانيا أشبه بسفينة تطفو في البحر دون هدف، فبعد أن انحرفت عن مسارها بسبب الأزمة المالية العالمية، وشهدت عدة تغييرات لقادتها، وبعض الاتجاهات الخاطئة – بريكست على الأخص – تُركت منذ ذلك الحين على غير هدى تضربها العواصف الاقتصادية.

وبعد مرور أكثر من أسبوع على انطلاق حملة الانتخابات العامة في المملكة المتحدة، قدمت الأحزاب السياسية الرئيسة بعض السياسات المهمة، لكن لم يقدم أي منها إجابة واضحة عن السؤال المحوري: ما الذي يجب أن يتضمنه النموذج الاقتصادي البريطاني على وجه التحديد؟

فقد أصبح اقتصاد المملكة المتحدة أقل بنسبة تزيد على 20% عمّا كان ليصبح عليه لو حافظ على معدل النمو قبل عام 2008 رغم أن أثر الوباء وارتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا كان شديد الوطأة.

وقد أدت سلسلة من خطط النمو والتغييرات لرؤساء الوزراء والمستشارين في السنوات الأخيرة إلى نهج فوضوي في المجالات الرئيسة للسياسة الاقتصادية، ووجود فجوة واضحة في اتجاهات استراتيجية النمو بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ولا يمكن لبريطانيا تحمل الاستمرار في التخبط، ويجب على البلاد أن تنهض لمواجهة العديد من التحديات على المستويين المحلي والدولي. ويفرض ضعف نمو الإنتاجية ضغوطاً على الإيرادات ومستويات المعيشة، في حين يواجه وضع بريطانيا كمركز تجاري عالمي ضغوطاً متزايدة.

إضافة إلى ذلك، يجب عليها التعامل مع التغييرات في الجغرافيا السياسية والتكنولوجيا والخصائص السكانية. ومن يستطيع التعبير بشكل مقنع عن رؤيته لاقتصاد البلاد، ينبغي أن يعهد إليه بقيادته وتطويره.

وتبدأ هذه العملية بوضع استراتيجية نمو واضحة وواقعية لتوفير إطار عمل، وهو نهج غير موجود حتى الآن، لتوجيه القرارات الضريبية والاستثمارية والتنظيمية على المدى الطويل، وعلاقة البلاد بالاتحاد الأوروبي.

وحتى الآن، اعتمد المحافظون نهجاً مخصصاً لدعم القطاعات، مع وضع طموحات «للريادة عالمياً» في المجالات كافة، بدءاً من العملات الرقمية إلى وسائل النقل المستقبلية.

من ناحية أخرى، تتشابه خطة «الاقتصاد المالي» التي اقترحتها الوزيرة في حكومة الظل راشيل ريفز، مع سياسة التدخل في الميزانيات الضخمة التي تبناها برنامج «بيدنوميكس» الأمريكي، ولو أن الموارد المالية المتاحة كانت أقل بكثير.

أولاً يتعين على بريطانيا أن تقرر ما تريد أن تبرع فيه. وبالنظر إلى حجم سوقها ورأس مالها وقوتها العاملة مقارنة بالولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، لا يمكنها التنافس عبر جميع التقنيات والقطاعات المتعلقة بالتحول الأخضر، ويعني ذلك أنه يجب عليها تهيئة الظروف لازدهار مزاياها النسبية، ويشمل ذلك الخدمات المالية والجامعات والعلوم الحياتية وبعض التقنيات المتجددة.

ومن شأن هذا أن يضمن لبريطانيا مكانة أقوى في الاقتصاد العالمي بدلاً من تشتيت نفسها في العديد من القطاعات. بعد ذلك، يتعين عليها تحديد بوضوح المناطق التي تحتاج فيها المملكة المتحدة لترسيخ أقدامها محلياً لمراعاة الأمن القومي والطاقة وسلاسل التوريد.

بعد ذلك، يمكن فتح فرص نمو أوسع في جميع أنحاء مناطق ودول المملكة المتحدة، من طريق إزالة الحواجز المتشعبة التي تعيق الأعمال والاستثمار في جميع القطاعات.

ويستلزم ذلك تبسيط عمليات التخطيط لتسريع بناء المنازل، وربط الشبكات، والبنية التحتية، ودعم تكتلات رؤوس المال الضخمة طويلة الأجل في بريطانيا للاستثمار في الشركات الناشئة، وتطوير نظام مهارات مرن.

ومن شأن الالتزام بالتوافق التنظيمي تلقائياً مع الاتحاد الأوروبي، الذي يظل أكبر شريك تجاري للبلد، أن يوفر اليقين الذي تشتد الحاجة إليه داخل الصناعات، ولا يتعين علينا السعي إلى الانحراف إلا عندما يصب ذلك في المصالح الاقتصادية لبريطانيا بشكل واضح.

ويتطلب وضع نموذج اقتصادي متماسك خيارات صعبة لم تكن الحكومات الأخيرة مستعدة للاعتراف بها، فهو ينطوي على إعطاء الأولوية لنقاط القوة والقدرة التنافسية على الاستسلام لجماعات الضغط القوية، حتى لو كان ذلك يعني إزعاج بعض الناخبين، وهذا النوع من القيادة الاقتصادية هو ما تحتاجه البلاد.

وبحلول نهاية الحملة الانتخابية، يجب ألا تبدو الرؤية للاقتصاد البريطاني غير محددة المعالم كما هي الآن، وإلا فإن الحكومة المقبلة تخاطر بمواصلة دفع البلاد إلى مسار تسيطر فيه المصلحة السياسية على المنطق الاقتصادي، وتنتقص الأخطاء التنظيمية من التوجيه السياسي، حيث يعوق عدم اليقين الشركات والمستثمرين والأسر، وفي هذه الحالة، سيكون التراجع النسبي في المملكة المتحدة أمراً لا مفر منه.