اكتشاف الجينوم الأكبر يؤكد عدم أهمية الحجم دائماً

في بعض الأحيان، تكشف الأشياء الصغيرة عن مفاجآت كبيرة، وينطبق هذا على نبتة السرخس الصغيرة التي تنمو في حفنة من الجزر جنوب المحيط الهادئ.

لقد اتضح أن هذه النبتة ذات المظهر العادي للغاية، تحتوي على أكبر جينوم تم اكتشافه على الإطلاق، إنه أكبر بنحو 50 ضعفاً مقارنة الجينوم البشري. لذلك، تحمل هذه النبتة الآن 3 أرقام قياسية في موسوعة غينيس، بصفتها أكبر جينوم لكائن حي، أكبر جينوم نباتي، وأكبر جينوم للسرخسيات. المشكلة أن حماية هذه النبتة تشكل مصدراً للقلق، فالكائنات الحية ذات سلسلة الجينوم الكبيرة تنمو وتتكيف ببطء، في ظل الظروف المناخية المتغيرة. ويخشى علماء النبات من عدم صمود هذه النباتات، التي تعود إلى ما قبل عصر الديناصورات، أمام التغيرات المناخية.

ومع ذلك، يسلط هذا الاكتشاف الضوء أيضاً على أسرار شفرات الحياة المحيطة، في وقت قد نميل فيه إلى مدح وتهنئة أنفسنا لفهمنا لها. فحتى مع قيام العلماء بتعديل الجينوم البشري لعلاج بعض الأمراض الوراثية، وتعديل الحمض النووي للنباتات لتطوير محاصيل مقاومة للمناخ، لا يزال بإمكان الطبيعة مفاجأتنا باكتشافات هائلة.

وأخبرتني إيليا ليتش، عالمة الأحياء التطورية للنباتات في الحدائق النباتية الملكية في كيو بإنجلترا، وهي عضوة في الفريق العالمي الذي توصل إلى هذا الاكتشاف، أن غالبية الناس لن يعيروا اهتماماً لحامل الـ 3 أرقام القياسية الجديد، حيث يبلغ طول السرخس الشوكي (Tmesipteris oblanceolate)، نحو 10-15 سنتيمتراً فقط، ويتميز بأوراقه المتفرعة الرقيقة، التي تطوّق الجذع، بدلاً من السعف المورق، حيث يبدو من بعيد كغصن إكليل الجبل.

في العام الماضي، قام فريق بقيادة جومي بيليسير من معهد برشلونة للنباتات، وبمشاركة مختصين من كاليدونيا الجديدة، بقطفه من موطنه الأصلي في جزيرة كاليدونيا الجديدة، وهي منطقة فرنسية وراء البحار، جنوب غرب المحيط الهادئ. بعد ذلك، بدأ تحليل الجينوم، حيث تتضمن هذه العملية عزل نواة الخلايا النباتية وصبغها بصبغة ترتبط بالمادة الوراثية أو الجينية، وكلما كان عدد الصبغات الجينية أكبر، كان الجينوم أكبر.

وقد برز هذا الجينوم بالتحديد، حيث يتم قياس حجم الجينوم بالأزواج القاعدية، على غرار «الدرجات» الموجودة على اللولب المزدوج، ويحتوي الجينوم البشري على أكثر من 3 مليارات زوج قاعدي، وحال فك تشفير الحمض النووي، سيمتد إلى مترين.

في المقابل، بلغ جينوم السرخس الشوكي أكثر من 160 مليار زوج قاعدي، وإذا تم فك تشفيرها، ستصل إلى 106 أمتار، أي أطول من ساعة بيغ بن، وعبّرت ليتش عن ذلك بالقول: «كنت في حالة ذهول». إن هذا الجينوم يفوق أكبر جينوم حيواني، وهو الموجود في السمكة الرئوية الرخامية، بمقدار 30 مليار زوج قاعدي، وعلى حامل الرقم القياسي السابق في النباتات، نباتات باريس جابونيكا المزهرة، بحوالي 11 مليار زوج قاعدة - والذي اكتشفه نفس الفريق أيضاً.

والأسبوع الماضي، نُشرت النتائج في مجلة «آي ساينس». وتؤكد النتائج، خلافاً للحدس، أن حجم جينوم الكائن الحي لا صلة له بمستوى تعقيده، لكن يبقى العديد من الأسئلة دون إجابة، مثل كيف يطوي نبات السرخس الشوكي الكثير من الحمض النووي في خلايا لا يزيد عرضها على جزء من الملليمتر؟ وبالنظر إلى أن أقل من 1 % من هذه المادة الوراثية يُعتقد أن لها دوراً وظيفياً، فكيف تفحص الخلايا الجينوم الضخم للعثور عليها؟.

وتوضح ليتش قائلة: «الأمر يشبه البحث عن عدد قليل من الكتب التي تحتوي على تعليمات للعيش والبقاء، داخل مكتبة مليئة بملايين الكتب.. إنه أمر مذهل بالنسبة لي». وخلافاً للكائنات الحية ذات الجينوم الأقل حجماً، تبدو هذه الكائنات غير قادرة على التخلص من الحمض النووي الزائد عن الحاجة، الذي قام بنسخ نفسه عشوائياً، وتراكم بمرور الوقت. ويكاد يكون الأمر كما لو أن الجينومات تعاني من السمنة، على حد قول ليتش.

وبالنظر إلى الجهد اللازم لرعاية الجينوم الضخم، من غير الواضح كيف تنجو هذه النباتات في الطبيعة. وتعني آليات تكرار 106 أمتار من الحمض النووي مع كل انقسام خلوي، أن النبات ينمو ببطء، ويحتاج إلى وفرة من النيتروجين والفوسفور. ويتطلب ذلك موائل مستقرة غنية بالمغذيات، مع القليل من المنافسة على الموارد.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الجينومات الكبيرة تعيق كفاءة عملية التمثيل الضوئي، ولا يعرف علماء الأحياء ما إذا كان ثمة حد أساسي لحجم الجينوم.

ومن شأن إجراء المزيد من الأبحاث، الإسهام في جهود الحفاظ على النبات، وهو أمر تعتبره ليتش ضرورياً، حتى بالنسبة لأنواع السرخسيات غير المعروفة، نظراً لأن النباتات تدعم فرص الحياة على كوكب الأرض. وستكون الخطوة التالية، هي تحديد تسلسل جينوم السرخس الشوكي (من المتوقع أن يحتوي على نحو 100 ألف جين، بينما يمتلك البشر 20 ألفاً).

كما ترغب ليتش في إحضار عينة لزرعها في كيو، وهي مهمة إدارية شاقة، زادت تعقيداً بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ويتطلب كلا الهدفين رحلة استكشافية أخرى، لكن في الوقت الحالي، يجب أن ترضخ الجينومات إلى الجغرافيا السياسية. فمنذ مايو، شهدت كاليدونيا الجديدة اضطرابات سياسية مستمرة، تتعلق بمحاولة توسيع نطاق حقوق التصويت على الجزيرة، ولا يُنصح بالسفر دون ضرورة، والزيارات معلقة حالياً.

ومن هذا المنطلق، ترمز حكاية السرخس الشوكي إلى أكثر من مجرد الحديث عن جينوم ضخم، فهي تكشف عن جزء من الأعباء التي يتحملها عالم النباتات، والتي تتمثل في التعامل مع النباتات والسياسة والعمل الإداري.

الأكثر مشاركة