حزب المحافظين في بريطانيا آخر ضحايا «بريكست»

كما تدين تدان، فبينما يحدق المحافظون في الهاوية الانتخابية، ويواجهون معارضة واستطلاعات رأي تنذر بالشؤم، وبعودة نايجل فاراج الآن زعيماً لحزب الإصلاح البريطاني لاستنزاف الدعم منهم بشكل أكبر، سيضطر الأكثر عقلانية بينهم في الاعتراف بحقيقة بسيطة، وهي أن حزب المحافظين أصبح آخر ضحايا الـ«بريكست».

وحتى لا يساء فهم الأمر، فإن المحافظين ليسوا في مأزقهم الحالي بسبب هذه السياسة على وجه التحديد. فمنذ الانتخابات الأخيرة، كان الوباء أكثر أهمية. وبالمثل، وخلافاً لما يريد أن يدعي منتقدو ريشي سوناك اليمينيون، فإنهم لا يتجهون إلى الهزيمة لأنهم لم يكونوا يمينيين بما فيه الكفاية، بل لأن الناخبين استنتجوا بعد 14 عاماً أن البلاد يقودها أشخاص غير أكفاء بشكل متسلسل وأنها في حالة أسوأ مما كانت عليه قبل عقد من الزمن.

لقد دمر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حزب المحافظين بسبب الخيارات السياسية التي فرضها عليه المتشددون الذين أعادوا تشكيل الحزب ما أدى لتقويض قاعدتهم، ورفعوا الأيديولوجيا على حساب البراغماتية، وصرفوا انتباههم عن القضايا الأكثر أهمية للناخبين، وتخلوا بأنفسهم من القادة الأكثر موهبة. وفوق كل ذلك، تسببوا في أن الناخبين صوتوا لقادة غير مؤهلين تماماً لإدارة البلاد.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أطلق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي العنان لسياسات شعبوية لا تشبع ولا يرغب معظم المحافظين في تطبيقها حقاً، إلا أنهم كانوا يأملون في استمالتها وترويضها. لكنها بدلاً من ذلك، فقد شغلت واستهلكت جناحاً من حزبهم وأصواتهم. وقد جعلهم ذلك أيضاً يرون مستقبلهم فيما يسمى «الجدار الأحمر»، حين تحول ناخبون عن حزب العمال عام 2019، تأييدا لاتفاقية «بريكست». لكن هذه المجموعة كانت وتراً إضافياً في القوس الانتخابي، وليست الكمان كله. وللحفاظ على هؤلاء الناخبين، ضيق المحافظون نطاق جاذبيتهم، وشطبوا وأهملوا مجموعات من الخريجين وسكان المدن والمعتدلين الليبراليين والمؤيدين الجنوبيين الذين هم أكثر أهمية لمستقبلهم. وهكذا، ستكلف الهزيمة في مناطق الحائط الأحمر حزب المحافظين السلطة؛ أما الانهيار في الجنوب فسينذر بمحوهم.

كما قوض «بريكست» التوازن بين التيارات الثلاثة الأساسية داخل الحزب: الليبراليون الأكثر اعتدالاً اجتماعياً وأنصار السوق الحرة المنتمين للدول الصغيرة والتقليديون المحافظون اجتماعياً الذين ربما أشرنا إليهم ذات يوم باسم «محافظي الإمبراطورية». وتعرض ذوو الآراء الليبرالية للتهميش حتى وقت قريب وكان يتم إبعادهم عن الحكومة، وحتى عن الحزب، لصالح وزراء أكثر ضعفاً بصفة عامة.

لقد شجع «بريكست» غريزتين غير محافظتين بين أعضاء البرلمان المنتمين للحزب: الأولى هي أن الغاية تبرر الوسيلة، والثانية هي النزعة «الترامبية» التي تصور مؤسسات الديمقراطية البريطانية الجوهرية، خاصة المحاكم والخدمة المدنية، على أنها أعداء للشعب. ويمكن في ضوء ذلك لي القواعد والقوانين والهيئات الأساسية أو أن تتعرض للهجوم لصالح غرض ما.

كما أجهزت «بريكست» على النموذج الاقتصادي للحزب. في السابق، كانت استراتيجية النمو الخاصة بهم مبنية على نموذج ضرائب منخفضة وتنافسية وانفتاح على التجارة، ولم يكن يتحفظ كثيراً على شركائه التجاريين. ومع ذلك، لم تتحقق الوعود التي قدموها بمزايا خروج بريطانيا. وأدى تعثر النمو إلى زيادة الضغط على المالية العامة. وقد لاحظ الناخبون ذلك. ولم ترتقِ المدن إلى مستوى أفضل؛ ولم يصبح الطعام أرخص؛ وازدادت الهجرة؛ وتدهورت الخدمات العامة. والآن أصبح المحافظون في مرمى الانتقادات بسبب صعوبة التوفيق بين تعهدات «بريكست» المتناقضة.

الأهم من ذلك أن «بريكست» دفع المحافظين إلى اختيار قادة غير مناسبين بشكل واضح. ويعود فوز بوريس جونسون بالانتخابات جزئياً إلى خشية المحافظين الوسطيين من زعيم حزب العمال، جيريمي كوربين. لكن جونسون أثبت بنفسه أنه كسول وفوضوي وغير أمين ومهمل، يظن أن القواعد وضعت للصغار. وكانت ليز تراس غير مناسبة بالمثل لكن بشكل مختلف. وكان المحافظون يعلمون ذلك، لكنهم اختاروا كلاً منهما لأنهما كانا يلبيان حاجات حزبية. ويرتبط انهيار الحزب بصورة مباشرة بإخفاقات هاتين الزعامتين.

وبالنسبة لسوناك، أحد المؤيدين الأصليين لـ «بريكست»، فجاء حكمه للبلاد بسبب جريمتي الانضباط المالي والانقلاب المتأخر على جونسون. لكنه شوه قيادته، وحملته حاجته إلى تهدئة روع الجناح اليميني في الحزب ودعم الأصوات الأساسية له.

إن استطلاعات الرأي تشير إلى حصول حزب إصلاح المملكة المتحدة على دعم يبلغ نحو 10% من الناخبين. وفي محاولته تفادي الهزيمة التي ورثها عن أسلافه إلى حد كبير، يلهث سوناك وراء الحصول على تأييد هؤلاء الناخبين بدلاً من استمالة المحافظين السابقين في الوسط.

وبدلاً من تحييد الدعم الشعبوي، فإن الانتقال إلى أجندة الإصلاح قد شجعه، وهو ما تكشفه عودة فاراج إلى الساحة. ويتم تعزيز ذلك أيضًا بدعم من المجموعات الإعلامية اليمينية التي تعمل على بناء الجمهور من خلال الترويج للغضب وخرافات الخيانة.

وبذلك، تمخض عن السعي وراء «بريكست» أن صار حزب القانون والنظام حزباً يخالف القواعد. وأصبح حزب الراضين حزباً للغاضبين. وبعدما كان حزباً للإدارة للمالية الحكيمة، بات حزباً للتهور المالي. وتحول حزب الاستقرار إلى حزب للفوضى. وهكذا، انهارت جنبات الكيان ووقع فريسة لفصيل صغير بشكل متزايد. وفي خضم كل هذا، توقف الحزب عن محاولة أن يكون حزباً وطنياً متحداً، وصار يمنح الأولوية لمجموعة فرعية تتألف غالباً من المصوتين كبار السن. ولن ينتهي ذلك بمرور عاصفة الانتخابات، إذ يحلم الكثير من المحافظين بإعادة الاصطفاف والتقارب مع مؤيدي سياسات فاراج.

لقد حاول سوناك التصدي لذلك لبعض الوقت، فملأ حكومته بالكاميرونيين، بمن فيهم ديفيد كاميرون ذاته، وهدأ من تجاوزات الغلاة من أنصار «بريكست». لكنه ضحية ما وقع في السابق وها قد بدأ القنوط. وليبدو حزبه وقد عفا عليه الزمن، وضحية أخيرة للقضية التي دافع عنها بقوة يوماً ما.