يبرز بقوة الآن اتجاه للتكامل الرأسي، مع سعي الشركات الأمريكية إلى التعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي وإزالة الكربون. وتعتقد الشركات في هذه البيئة أن فرض المزيد من السيطرة في ما يتعلق بعمليات التوريد وقنوات المبيعات سيساعدها على تسريع الابتكار والتأقلم مع الاضطرابات الجيوسياسية.
لكن هل من الأفضل لو اشترت الشركات التوريدات اللازمة والمهارات، أم تطويرها في الداخل، أم البحث عن طريقة ما لعقد شراكات؟ فقد اشترت «جنرال موتورز» العام الماضي منجماً لليثيوم لتأمين المعادن الضرورية لمركباتها الكهربائية. وتهيمن منافستها الصينية «بي واي دي» بالفعل على غالبية سلسلة توريدها وصولاً حتى إلى السفن التي تشحن سياراتها، ويُقال إنها تسعى لإبرام مزيد من صفقات الاستحواذ مع تطلعها إلى التوسّع.
وأعلنت «أبل» منذ أيام شراكة مع «أوبن إيه آي» لدمج «تشات جي بي تي» في أجهزتها، إذ تسعى «أبل» إلى اللحاق بركب منافستها «مايكروسوفت» التي سبقتها إلى العمل مع الشركة الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي وتستثمر بها 13 مليار دولار حالياً، كما دمجت التكنولوجيا الخاصة بها في عدة منتجات. وفي الوقت ذاته، تعمل «ألفابيت» المالكة لـ«غوغل» التي حازت الريادة المبكرة في مجال الذكاء الاصطناعي بعد شرائها «ديب مايند» في 2014، على تصميم نماذجها اللغوية الكبيرة الخاصة، وعززت مؤخراً تطوير الرقائق الخاصة بها لتشغيل منتجاتها.
وهكذا، تتعدد الأسباب التي تدفع الكثير من الشركات تجاه التكامل الرأسي بخلاف السعي إلى بسط السيطرة وجني الربح من التكنولوجيا المتقدمة. وغالباً ما تزيد مثل هذه الروابط الوثيقة من الكفاءة والقدرة على التعافي من الاضطرابات التي تلم بسلاسل التوريد. كما تسهّل الملكية المباشرة إجراءات مراقبة انتهاكات العمل والرشوة في الخارج وغيرهما من المخالفات التنظيمية، علاوة على أنها تيسّر حساب الانبعاثات الكربونية.
لكن على الجانب الآخر يزداد قلق جهات مراقبة المنافسة من أن التكامل الرأسي قد يدعم أهدافاً غير جديرة بالثناء، إذ قد تحاول الشركات القوية في المجالات التي ما زالت التكنولوجيا فيها قيد التطوير، الاستئثار بالأسبقية على المنافسين ورواد الأعمال المستقلين من خلال استغلال قوتها في ما يتعلق بمدخلات رئيسية أو قنوات مبيعات للحيلولة دون المنافسة.
وركزت جهات الإنفاذ الأمريكية طيلة أعوام على الصفقات العرضية، حيث يسهل إثبات الإضرار بالمنافسة لأنها تنطوي على مجموعات من المنافسين المباشرين. وأعربت هذه الجهات إلى حد كبير عن قلقها حينما تأرجحت الشركات الكبيرة في سلسلة القيمة صعوداً أو هبوطاً، لكن الشركات الكبيرة هدّأت من هذه المخاوف بتعهدات بأنها لن تسيء استغلال قوتها السوقية، مثلما حدث عند شراء شركة لايف نيشن لترويج الحفلات الموسيقية شركة «تيكت ماستر» في 2010.
لكن هذا الأمر بدأ يتغير، لذلك، حاولت لجنة التجارة الفيدرالية برئاسة لينا خان منع «مايكروسوفت» التي تصمم أجهزة اللعب من شراء مجموعة أكتيفيجن للألعاب، ووقف «ميتا» عن الاستحواذ على شركة ويذين للواقع الافتراضي. ورغم فشل هاتين المحاولتين، فقد حققت اللجنة نجاحاً حينما حاولت منع مجموعة إلومينا للتكنولوجيا الحيوية من شراء «غريل» التي تنتج اختبارات فحص السرطان.
وقررت محكمة استئناف فيدرالية أن لجنة التجارة كانت محقة في القلق من أن هيمنة «إلومينا» على اختبارات تسلسل الحمص النووي ستمنحها سلطة أكبر على المنافسين المُحتملين لشركة «غريل» في سوق الفحص التي ما زالت في أولى مراحلها. واتسمت جهات الإنفاذ في الاتحاد الأوروبي بصرامة أكبر، فقد قررت تغريم «إلومينا» 432 مليون يورو لإتمامها عملية الدمج دون موافقة بروكسل. خسر الرئيس التنفيذي لدى «إلومينا» وظيفته إثر ذلك، وتعتزم الشركة الانفصال عن «غريل» من جديد في اكتتاب عام أولي هذا الشهر.
وهناك قضايا أخرى يعيد بعضها النظر في حالات التساهل التي تمت سابقاً. ورفعت وزارة العدل دعوى في الشهر الماضي بغرض تفكيك «لايف نيشن»، وأعلنت أن الشركة تضيق الخناق على المنافسة بإدارتها للفعاليات وسيطرتها على الساحات، بالإضافة إلى هيمنتها على مبيعات تذاكر الحفلات.
لذلك يتعين على المسؤولين التنفيذيين للشركات الحذر من اعتبار الأمر كأنه ظاهرة عابرة تمر بها إدارة الرئيس بايدن وستنتهي إذا ما عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في نوفمبر، فقد سلكت وزارة العدل في بداية عهده الاتجاه نفسه عندما أحالت أول دعوى بشأن اندماج رأسي إلى المحكمة للمرة الأولى منذ 40 عاماً؛ سعياً لحظر شراء شركة «إيه تي آند تي» لشركة «تايم وارنر».
وبالرغم من فشل تلك الدعوى، فإن القضاة الذين عينهم الجمهوريون أثبتوا تعاطفهم مع بعض من الادعاءات الأخرى. ويُشار إلى تعيين جورج بوش الأب لواضع القرار بشأن «إلومينا». وذكرت ريبيكا ألينسوورث، أستاذة القانون لدى جامعة فاندربيلت: «المحاكم أكثر تفتحاً مما يعتقد الناس. إنها ليست مسألة متعلقة باليمين أو اليسار فحسب». وتابعت: «لا أتوقع انتهاء ذلك تماماً».
وبالنسبة للمسؤولين التنفيذيين الذين يأملون الابتعاد عن مرمى النيران التنظيمية، حري بهم تذكر قاعدة بسيطة، مفادها أن عمليات التكامل الرأسي ليست بالضرورة شبيهة ببعضها البعض. وتنأى الشركات التي تتسم بالابتكار بصفة عامة بنفسها عن الانتقادات ما لم تسئ استغلال قوتها عن طريق ربط منتجين ببعضهما بعضاً على نحو مخالف للقانون. وتجدر الإشارة إلى أن شراء شركة ناجحة بالفعل لمنع وصول المنافسين إليها مختلف تمام الاختلاف عن ترخيص التكنولوجيا.
وباختصار، فإن السيطرة التامة للشركات لها مميزاتها، لكن الابتعاد عن تدقيق مكافحة الاحتكار ليس منها بالضرورة.