الثقافة الغربية للعمل.. تفضيل القرارات السريعة على كل المهارات الأخرى

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت أتناول الغداء مؤخراً مع أحد مؤسسي الشركات الناشئة الأثرياء في العاصمة السويدية ستوكهولم، وهي مدينة تعج بهم. لقد بدا لطيفاً، ناجحاً، ويمتلك الكثير من الذكاء الاجتماعي.

أثناء الغداء قدم لي نصيحة مهمة حيال تعيين الموظفين الجدد. فبعد إجراء المقابلة، إذا اجتاز المرشح المرحلة الأولية، كان يدعوه لتناول الغداء، لكن إذا احتاج المرشح لأكثر من دقيقتين لطلب الطعام، يغير رأيه ويحول الوظيفة لمرشح آخر.

وتساءلت عمّا إذا كان ثمّة محاذير. على سبيل المثال، ماذا لو أحال المرشح الأمر لخبرة النادل ومعرفته بقائمة الطعام واتبع نصيحته؟ ورد رجل الأعمال السويدي بأن هذا يعني افتقار المرشح إلى المبادرة وعدم القدرة على اتخاذ القرار بنفسه. ومع ذلك، أضاف أنه سيكون سعيداً إذا حذا المرشح حذوه في اختيار الطعام. وقد أعجبت بمنطقه، إذ لماذا توظف شخصاً يهدر الوقت عندما تكون الكفاءة أهم شيء؟

لقد باتت الثقافة الغربية تقدس اتخاذ القرارات السريعة وتقدمه على أغلب المهارات الأخرى. ولم يعد لدينا صبر على أولئك الذين يحتاجون إلى «لحظة للتفكير» أو يميلون إلى «تأجيل القرار». فالناس الآن يريدون إجابة، ويودون سماعها في الحال، حيث لم يعد ثمة شهية للحوار أو اتخاذ قرار بعد تفكير طويل في جميع العوامل التي ينطوي عليها الأمر.

ويبدو أن تسرعنا الجماعي بات سمة من سمات ثقافة الاقتباس، وبطبيعة الحال، تغذي وسائل التواصل الاجتماعي ذلك، حيث يجب تلخيص كل شيء في أقوال مأثورة بارعة وتكثيفها في جمل شديدة الاختصار قبل تجاهلها. لكن في عالم مليء بالخيارات اللامتناهية، أصبح اتخاذ القرار بمثابة قوة خارقة. بجانب ذلك، نشأت ثقافة غريبة تتمحور حول ضرورة استمرار الانسيابية والتركيز. لذلك، أعجبتنا قمصان أوباما الزرقاء قصيرة الأكمام وكذلك قمصان مارك زوكربيرج الرمادية لأن ملابسهما كانت تدل على أن عقليهما لم يتشتتا قط عن المسعى اليومي ليكونا من العظماء. وللتأكد من أن التفكير العميق والتأمل والتمعن لم يعد جذاباً، ما عليك سوى إلقاء نظرة على المناظرات الانتخابية الأخيرة في المملكة المتحدة.

ولكوني من بين الأشخاص قليلي الصبر على هذا الكوكب، فأنا أتعاطف بشدة مع هذا الرأي، إذ لا أستطيع تحمل المترددين أو الأشخاص الذين يشككون في أمور لا نهاية لها من خلال تدقيقهم الممل في الحقائق والحجج المضادة. كما أنه ليس لدي رغبة في الجدل لساعات، كما يفعل الكثير من الفرنسيين غالباً.

ربما تكون إحدى سمات شمال أوروبا هي الإعجاب بأولئك الذين يتخذون القرارات بكفاءة منقطعة النظير. أما في جنوب أوروبا، فلا يزال هناك شهية للتأمل والحوار. وأساس هذا الادعاء، والذي سيدهشكم حين تعرفون، يستند إلى دراسة ميدانية أجريتها خلال سلسلة من رحلاتي الأخيرة: ما عليك سوى مراقبة المشهد الذي يستغرق 15 دقيقة عندما يحاول إيطالي شراء ثمار الطماطم، وستفهم بالضبط ما أعنيه. فالشعوب اللاتينية تقوم بالضغط على الثمار وشمها، وينخرطون في نقاشات طوبلة حول أصولها، ويتحدثون عما قد يتناسب مع طعمها وما يجب تناوله بعد ذلك، بينما في المملكة المتحدة تجد بعض الباعة الغاضبين يرمون الفاكهة دون فحصها في كيس ورقي.

ولم يعد التفكير العميق والتأمل والتمعن جذاباً، ما عليك سوى إلقاء نظرة على المناظرات الانتخابية الأخيرة على التليفزيون البريطاني، حيث كان من المتوقع أن يقدم المرشحون استراتيجيات معقدة في مقتطفات سريعة مدتها 40 ثانية.

لطالما كنت فخورة بتفكيري السريع. وقد يجادل النسويون أن لذلك سابقة تاريخية: فالنساء، اللاتي يتم تجاهلهن في عملية صنع القرار، تعلمّن حشر آرائهن بين الترهات الكلامية للرجال، مثل شرائح رقيقة من الحشوة الطرية. ومع ذلك، توقفت أثناء قراءة مذكرات روري ستيوارت شديدة الإحباط بعنوان «السياسة على الحافة»، حيث أعرب الوزير المحافظ السابق عن أسفه لخشونة الحوار في الحكومة، ومن ثم، طريقة التفكير. وهو يسخر من وزيرة الخارجية السابقة، ورئيسة الوزراء لفترة وجيزة ورئيسته السابقة ليز تراس، حيث كتب أن «عبقريتها تكمن في التبسيط المبالغ فيه.. قد يتعلق الحكم بالتفكير النقدي، لكن نمط السياسة الجديد، الذي كانت من رواده، لم يكن كذلك؟».

من الواضح أن ستيوارت شخص محب للتأمل العميق، لدرجة أنه يلجأ إلى الخلوات الصامتة فقط ليجلس مع كل هذه الأفكار. ويشير موقفه إلى أننا يجب أن نستمتع بكل التفاصيل، وألا نخلط بين الضعف والشك. لكن اتخاذ القرارات السياسية لا يشبه اختيار ثمرة طماطم، أو تحديد ما تريد تناوله على الغداء، لكنه يشير إلى نفاد الصبر المتوطن الآن في عدد من الأوساط المهنية والتجارية.

إذن، كيف تقرر ما ستتناوله على الغداء؟ هل تختار دائماً الشيء نفسه؟ هل تتردد بين الأطباق المختلفة ثم تطلب شيئاً لا تحبه؟ لو كان لي الخيار، لن أطلب أبداً، وسأسمح لشخص آخر باتخاذ القرار. من لديه وقت لقراءة القائمة؟ سأقوم ببساطة بإرجاء القرار إلى رجل الأعمال السويدي ثم أرى إذا كنت بالفعل أريد العمل معه. أليس من الغريب كيف تنقلب الطاولة!

كلمات دالة:
  • FT
Email