في بريطانيا يتعلق «القفل الثلاثي» بالالتزام بحماية القيمة الحقيقية للمعاشات في بريطانيا.

أما في أيرلندا، فالمعنى مختلف تماماً، إذ يتعلق بمجموعة من الاختبارات التي يتوجب على الحكومة اجتيازها قبل إرسالها قوات مسلحة إلى الخارج. وإذا كان فك القفل البريطاني مستفزاً للغاية إلى حد عدم نظر الساسة فيه، فما بالك بالتلاعب بالقفل الأيرلندي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصورة الذهنية غير المعادية للجمهورية.

ولطالما طالب الحلفاء أيرلندا بفعل المزيد، لافتين إلى أن أوروبا الديمقراطية لديها أعداء قد لا يستثنون دولة «محايدة» من أي من تهديداتهم، كما أن الكابلات البحرية التي تمر بالقرب من الساحل الأيرلندي قد تكون مرشحة للتخريب. وفي حين أن عضوية حلف شمال الأطلسي «الناتو» ليست احتمالية بعيدة، فإن أيرلندا قررت المشاركة في خطة تعاون جديدة مع التحالف.

وفي حقيقة الأمر، تعد أيرلندا، حيث يتمتع الدعم لحصولها على عضوية الاتحاد الأوروبي بما يقرب الإجماع، مكاناً جيداً يمكن من على ربوته مشاهدة واحدة من القصص غير المروية بصورة كافية في العالم، وتتعلق بالمرونة الغريبة للمؤسستين الأكثر أهمية في الغرب.

وبعدما شخّصه الرئيس الفرنسي بنفسه في 2019 بـ«الموت الدماغي»، فإن «الناتو» صار أكبر وأعمق اليوم بعد انضمام كل من السويد وفنلندا، ومع إنفاق الدول الأعضاء المزيد على الدفاع. ليس ذلك فحسب، بل تنظر بعض البلدان في العودة إلى التجنيد الإجباري.

ربما يكون «الناتو» ثاني أكثر المؤسسات مرونة التي تتخذ من بروكسل مقراً لها. ثمّة حقيقة أصابها الهلع المبرر بشأن التجمع الوطني في فرنسا والبديل من أجل ألمانيا، إلى جانب حركات قومية أخرى. ويتسم الاتحاد الأوروبي بالشعبوية، وأصبح أكثر شعبوية في الآونة الأخيرة. وبالنسبة للقراء الذين يجدون ذلك غير قابل للتصديق، فما عليهم سوى أن يتناقشوا مع الشركات التي تنتج استطلاعات الرأي.

لقد أوضحت «يو غوف» خلال الشهر الماضي أن إجراء استفتاء على العضوية سيسفر عن فوز ساحق لفريق البقاء في الاتحاد الأوروبي في كل الديمقراطيات الكبيرة في الاتحاد الأوروبي. ولا تزيد نسبة مؤيدي مغادرة التكتل على 18 % في ألمانيا.

وفي إسبانيا، تقل النسبة عن 10 %. وخلص «يوروبارومتر»، المختص باستطلاع الآراء في القارة، إلى أن 74 % من المستجيبين «يشعرون» حالياً بأنهم مواطنون في الاتحاد الأوروبي، مقابل 25 % لا يشاركونهم هذا الشعور.

بينما كانت هذه القراءات 59 %، و40 % منذ نحو عقد. وأفاد «بيو ريسيرش سنتر» بتبني السواد الأعظم وجهات نظر إيجابية عن الاتحاد الأوروبي في ربوع القارة، باستثناء اليونان.

وهكذا، يعكس الاستطلاع تلو الاستطلاع الاتجاه ذاته، ويتمثل في تضاؤل سمعة الاتحاد الأوروبي في منتصف القرن الماضي إبان أزمات الديون السيادية ثم انتعاشها إلى مستويات مرتفعة بصورة ملحوظة منذ ذلك الحين.

ويفسر ذلك بعضاً من التحولات الغريبة في السياسات الوطنية. ولكي تصل إلى ما وصلت إليه، ولم يكن كافياً لتحكم فرنسا، اضطرت مارين لوبان إلى أن تلين عصاها فيما يتعلق بأوروبا.

أما رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، فقد تبنت توجهاً بناءً مع الاتحاد الأوروبي بعد أن ظن البعض أنها ستحاربه. وترجع عودة دونالد تاسك إلى قيادة بولندا جزئياً إلى صدامات أسلافه مع بروكسل التي لم تلقَ استحسان الناخبين المؤيدين للاتحاد الأوروبي.

كذلك، فإن الكثيرين من ذوي الآراء المحافظة بشأن الهجرة والجريمة والصافي الصفري للانبعاثات وبروكسل أيضاً في ربوع القارة يرفضون الخروج من الاتحاد الأوروبي أو أي شيء من هذا القبيل.

لا يضمن أي من ذلك مستقبلاً هادئاً للاتحاد الأوروبي، أو مستقبلاً من الأساس. وفي حين لم يتمكن الشعبويون من اكتساح الانتخابات البرلمانية الأوروبية في الشهر الماضي.

لكن أداءهم كان جيداً بما يكفي لكي يزيدوا من دورهم المنغص. ويمكن لرئيس يميني متطرف أن يحكم فرنسا اعتباراً من 2027.

وقد يتسبب في الإضرار بالاتحاد الأوروبي كما نعرفه، حتى من دون الإشارة إلى الخروج منه، مثلما يمكن لدونالد ترامب أن يقوّض «الناتو» دون إخراج الولايات المتحدة منه.

وفي النهاية، تعتمد كل المؤسسات على ثقة الجماهير، كما أن فكرة مواجهة الاتحاد الأوروبي أزمة وجودية على هذا الصعيد تعد أكثر صعوبة في الوقت الحالي مقارنة بما كان عليه الحال بعام 2015، بغض الطرف عن مدى بروز المعنويات السياسية المناهضة للمؤسسات منذ حينها.

وفي بريطانيا، ولأن أي قومي سيكون مناهضاً للاتحاد الأوروبي بصفة عامة، تميل النخبة الأنغلوأمريكية إلى افتراض الأمر ذاته عن الأوروبيين. وفي حقيقة الأمر، فإن الملايين قادرون على الفصل بين الأمرين.

لقد كان «بريكست» مساعداً. وإذا كان «الناتو» يدين بفورته الحالية إلى روسيا، فالاتحاد الأوروبي مدين للأبد لبريطانيا، إذ لم تسر المغامرة البريطانية الكبيرة في 2016 على ما يرام بما يكفي، وهو ما ثبط بقية أوروبا عن مجرد التفكير بالأمر.

وبخلاف مشاركتها في إعداد السوق الموحدة في ثمانينيات القرن الماضي، يتفرد «بريكست» باعتباره أكبر خدمة أسدتها بريطانيا إلى المشروع الأوروبي.

وقد وقع كلا الأمرين في عهد حكومات لحزب المحافظين، ما سيثير غيظ الحزب على نحو لا يمكن لهزيمة انتخابية ساحقة أن تفعله. ويا لها من هدية وداع! وما أصدق بروكسل، في عدة خطوب، عندما تقول: «لم يكن عليك فعل ذلك»!