بينما يحلم المسؤولون الماليون حول العالم بتحقيق فائض في الميزانية يجد المسؤولون في أيرلندا أنفسهم في حيرة من أمرهم أمام فائض يبلغ 8.6 مليارات يورو، واقتصاد نما بمعدل يفوق التوقعات بخمس مرات في العام الماضي، وقد تبين لهم أن اتخاذ قرار حيال كيفية إدارة هذه الثروة للبلاد أصعب مما كان متوقعاً.
وفي هذا الصدد، قال جيرارد برادي، كبير خبراء الاقتصاد في منظمة «إيبك»، أبرز جماعة ضغط تجارية في أيرلندا: «مشكلة أيرلندا ليست في نقص الأموال، بل لأن لديها فائضاً كبيراً، وهناك صعوبة في تحديد أفضل الطرق لتحويل هذه الأموال إلى أشياء حقيقية يحتاج إليها الناس».
بعد أكثر من عقد من الأزمة، الذي تطلبت تدخل الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، وتقديم قروض قيمتها 67.5 مليار يورو، وفرض برنامج تقشف مثير للجدل، تواصل الحكومة توخي الكثير من الحذر، وتؤكد الادخار لمواجهة التحديات المستقبلية المتعلقة بالمعاشات التقاعدية والمناخ والبنية التحتية.
ومع ذلك يعتقد بعض خبراء الاقتصاد أن عدم استغلال هذه الثروة يضيع فرصة مواتية لحل القضايا المرتبطة بالبنية التحتية، التي قد تهدد بعرقلة ازدهار أيرلندا.
وقال الخبير الاقتصاد، ديفيد ماكويليامز: «هناك حاجة ماسة للاستثمار العام، وفرصة يندر تكرارها لتمويل ذلك من هذا الفائض»، وثمة العديد من المجالات لإنفاق المال في موضعه السليم، بما في ذلك حل أزمة الإسكان في بلد تخطى فيه النمو السكاني المتسارع حجم المعروض من المساكن الجديدة، إلى جانب التخفيف من وطأة التحديات، التي تواجه شبكة الكهرباء وإمدادات المياه والخدمات الصحية والنقل العام.
وقال ماكويليامز: «نادراً ما تحظى دولة بمثل هذه الفرصة الاستثنائية لتغيير المجتمع».
ومن المقرر أن تحقق البلاد فائضاً ضخماً للعام الثالث على التوالي في عام 2024، بعد أن سجلت فائضاً قدره 8.3 مليارات يورو العام الماضي، و8.6 مليارات يورو في عام 2022، بحسب ما جاء في البيانات الرسمية. ويرجع الفائض في خزانة الدولة إلى الزيادة في عائدات ضرائب الشركات من الشركات العالمية، التي تتخذ من أيرلندا مقراً لها، خاصة في قطاعات التكنولوجيا وصناعة الأدوية.
وتشير الحكومة إلى أن إيرادات ضريبة الشركات، التي بلغت 23.8 مليار يورو في عام 2023، ومن المتوقع أن تصل إلى 24.5 مليار يورو هذا العام، هي إيرادات متقلبة ومؤقتة، ومن غير المحتمل أن تستمر في النمو بنفس الوتيرة.
وترى أن نصف حصيلة ضريبة الشركات قد تكون «كسباً مفاجئاً» أو مؤقتاً، وقد اختارت استثمار أكثر من 100 مليار يورو من الفائض في صندوقين للثروة السيادية بحلول عام 2035، والتصدي للتحديات المستقبلية المتعلقة بالمعاشات التقاعدية والمناخ والبنية التحتية.
وخفضت الحكومة توقعاتها لفائض الميزانية في السنوات المقبلة، حيث توقعت 65 مليار يورو للفترة 2023 - 2026، لكنها لا تزال تتوقع فائضاً إجمالياً قدره 38 مليار يورو للفترة 2024-2027، وبغض النظر عن الحصيلة الضريبية الكبيرة فإن اقتصاد أيرلندا يسجل أداء قوياً.
ورغم أن بيانات الناتج المحلي الإجمالي لأيرلندا تتأثر بقطاع الشركات المتعددة الجنسيات الضخم، إلا أن الطلب المحلي المعدل، وهو مقياس النمو المفضل لدى الحكومة، ارتفع بنسبة 2.6 % العام الماضي، مقارنة بتقدير رسمي سابق بنسبة 0.5 % لعام 2023.
ومع اقتراب الاقتصاد من التشغيل الكامل للعمالة، وارتفاع معدل التضخم السنوي إلى 9.2 % في عام 2022، تعهدت الحكومة بالإنفاق بحذر خوفاً من ارتفاع الأسعار، رغم تراجع ضغوط الأسعار الآن إلى 1.1 %. إلا أن ديرموت أوليري، كبير خبراء الاقتصاد لدى شركة السمسرة «جود بادي»، لاحظ أدلة تشير إلى «زيادة تدريجية في الإنفاق».
وقال: «خرجت الحكومة بتصريحات قوية حيال الحاجة إلى الحيطة والحذر، والاتجاه إلى إنشاء صناديق الادخار، لكن نمو الإنفاق الفعلي كان أكثر إسرافاً إلى حد كبير».
وأنفقت دبلن بعض الأموال لسداد الديون، مما خفض نسبة الدين إلى الدخل القومي الإجمالي إلى أقل من 76 %، ولتمويل تدابير التصدي لجائحة كورونا ودعم تكاليف المعيشة، لكن مع اقتراب موعد الانتخابات العامة المقرر إجراؤها عام 2025، ثمة توقعات متزايدة لإعلان ميزانية سخية في الأول من أكتوبر.
وذكر أوليري أنه «من الصعب على الوزراء التعامل مع وفرة الثروات، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات، لذا تلعب السياسة دوراً بالتأكيد».
وحتى الآن، أعلنت الحكومة أن الميزانية ستشمل 6.9 مليارات يورو للإنفاق، و1.4 مليار يورو للإجراءات الضريبية – وهي تقر بأن هذه الإجراءات ستخالف القاعدة، التي فرضتها على نفسها، والتي تقضي بزيادة الإنفاق بنسبة لا تتجاوز 5 % سنوياً.
واقترحت إيما هوارد، المحاضرة في جامعة دبلن للتكنولوجيا، أن تستغل أيرلندا جزءاً من الفائض النقدي «للتصدي للقضايا المجتمعية، التي تتجاوز المنظور الاقتصادي الكلي».
وتكشف بيانات الاتحاد الأوروبي أن أيرلندا لديها أعلى معدل للشعور بالوحدة في أوروبا، حيث يشعر قرابة خمس السكان بالوحدة معظم الوقت أو طوال الوقت، في حين يعاني نحو ثلثي السكان من القلق أو الاكتئاب. بالإضافة إلى ذلك يعيش طفل من كل سبعة أطفال في أسر تحت خط الفقر، والذي تم تحديده بنسبة 60 % من متوسط الدخل المتاح للأسرة.
وقالت هوارد: «لدينا أموال يمكن إنفاقها على الفور لتحسين بعض الأوضاع الاجتماعية، ويتعين علينا التفكير في ذلك، لأنه يمكننا تحمل التكاليف»، بينما أشار ماكويليامز إلى أن أيرلندا ينبغي لها استغلال الفائض لإنشاء صناديق للشركات الناشئة لتشجيع ريادة الأعمال، وعلق قائلاً «ثمة قصور في الرؤية».
ويزعم آخرون أن أيرلندا قادرة على تعزيز رفاهية مواطنيها البالغ عددهم 5.3 ملايين نسمة وتعزيز الاقتصاد من خلال تحسين نظام التخطيط، الذي قد يعوق تطوير البنية التحتية لسنوات.
وتسعى الحكومة إلى سن تشريعات لإصلاح النظام، بما في ذلك تحديد المواعيد النهائية لقرارات التخطيط. ومؤخراً بدأت أعمال بناء المساكن تكتسب زخماً، إلا أنها لا تزال لا تلبي الطلب المتوقع، فبناء المستشفى الوطني الجديد للأطفال، الذي تقدر تكلفته الآن بنحو 2.24 مليار يورو، متأخر عن الموعد الزمني المقرر وتجاوز ميزانيته الأولية بأربع مرات، ومن غير المرجح اكتماله قبل العام المقبل على أقرب تقدير.
وأياً كان القرار الذي ستتخذه أيرلندا بشأن الفائض، يبدو أنها ستستمر في تلقي المزيد، وبموجب أحد أركان خطة الإصلاح الضريبي القائمة على ركيزتين لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تهدف إلى الحد من المزايا للشركات المتعددة الجنسيات العاملة في البلدان ذات الضرائب المنخفضة، زادت أيرلندا معدل ضريبة الشركات من 12.5 % إلى 15 % للشركات الكبرى، لكن الركن الآخر من الخطة، المتعلق بشرط إلزام الشركات بدفع الضرائب بناء على أماكن وجود عملائها، وبالتالي تحويل بعض إيرادات ضريبة الشركات في أيرلندا- لم يعد قائماً فعلياً.
وقال شيموس كوفي، رئيس المجلس الاستشاري المالي الأيرلندي، في مؤتمر عقد مؤخراً: «نحن في وضع قوي للغاية الآن.. والأمل معقود على ألا نثير الكثير من الفوضى».