تقرير رئيس المركزي الأوروبي عن التنافسية يضع الاتحاد أمام تحدٍ وجودي

«في إطار التفويض الممنوح لنا، فإن المصرف المركزي الأوروبي مستعد للحفاظ على اليورو مهما تطلّب الأمر. وصدقوني، سيكون هذا كافياً». هكذا تحدث دراغي، عندما كان رئيساً للمركزي الأوروبي في يوليو عام 2012، ليهدئ الذعر الذي كان يكتنف اليورو حينها. وفي الأسبوع الماضي، أصدر الرجل نفسه تقريراً من 393 صفحة عن «مستقبل التنافسية الأوروبية».

وكرئيس للمركزي الأوروبي، واجه دراغي أزمة ملحة، بالأدوات التي يمتلكها. إلا أنه اليوم، يقدم المشورة لسياسيين خائفين وبيروقراطيين محاصرين، وجمهور محبط، حول الأسباب والكيفية التي ينبغي بها بذل جهود ضخمة. والهدف، مرة أخرى، هو إنقاذ المشروع الأوروبي مما يحب أن يسميه «تحدياً وجودياً».

واقتباساً من تقريره: «إذا لم تستطع أوروبا أن تصبح أكثر إنتاجية، فسنضطر إلى الاختيار. لن نتمكن من أن نكون في الوقت نفسه قادة في التقنيات الجديدة، ونموذجاً يحتذى في المسؤولية المناخية، ولاعباً مستقلاً على الساحة العالمية. لن نتمكن من تمويل نموذجنا الاجتماعي. سنضطر إلى تقليص بعض طموحاتنا، إن لم يكن جميعها». باختصار، يواجه الاتحاد الأوروبي خطر الفشل.

وحسب ما جاء في التقرير، فإن عالم اليوم ليس مناسباً على وجه الخصوص للاتحاد الأوروبي. فحقبة التجارة الحيوية وتعددية الأطراف تحتضر. وفقد التكتل أهم مورد للطاقة الرخيصة؛ روسيا. وفي المقام الأول، يتجه التكتل نحو حقبة من الصراع الجيوسياسي، الذي تتحول فيه التبعيات الاقتصادية لنقاط ضعف.

الأسوأ من ذلك، أن الاتحاد الأوروبي بصدد دخول هذا العالم الجديد بينما يعاني كثيراً من أوجه الضعف.

وبحسب التقرير: «نما الدخل الحقيقي المتاح للفرد في الولايات المتحدة بنحو ضعف معدل النمو في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2000». ويتعلق جزء كبير من السبب وراء هذا بتخلف الاتحاد الأوروبي كثيراً عن الولايات المتحدة، وحتى الصين، في الثورة الرقمية. وهناك 4 شركات فقط من أبرز 50 شركة تكنولوجية على مستوى العالم أوروبية الأصل. وأسعار الطاقة في الاتحاد الأوروبي مرتفعة نسبياً، خاصة إذا قورنت بأسعار الطاقة في الولايات المتحدة. والتركيبة السكانية في الاتحاد الأوروبي أيضاً متردية. لذا، «إذا حافظ الاتحاد الأوروبي على متوسط معدل نمو الإنتاجية السائد منذ عام 2015، فسيكون ذلك كافياً ليظل الناتج المحلي الإجمالي ثابتاً حتى عام 2050». والأكثر أهمية، أن الأوروبيين غير قادرين على حماية أنفسهم، وهو ما كشفته العملية العسكرية في أوكرانيا.

الاتحاد الأوروبي لا يمكنه تغيير العالم، لكن يمكنه، بل يجب عليه تغيير نفسه، ليتكيف مع العالم. وأبرز ما يقدمه هذا التقرير وبوضوح، هو الخيوط المشتركة التي تربط هذه العلل المختلفة. ويتمثل أهمها في التجزؤ، والإفراط في التنظيم، والتنظيم غير الملائم، والإنفاق غير الكافي، والتوجه غير المبرر نحو المحافظة. ومن بين هذه، يعد التجزؤ هو الأكثر إضراراً.

أتى دراغي على ذكر هذه العلل مراراً في التقرير. ولفت إلى أن «أوروبا عالقة في هيكل صناعي جامد، ينشأ فيه عدد ضئيل من الشركات الجديدة لزعزعة الصناعات القائمة أو تطوير محركات جديدة للنمو. وفي الواقع، لا توجد شركة بقيمة 100 مليار يورو نشأت من الصفر في الاتحاد الأوروبي خلال الخمسين عاماً الماضية. في حين برزت الشركات الست الأمريكية التي تتخطى قيمتها السوقية تريليون دولار خلال هذه الفترة». بالتالي، هيمنت شركات السيارات طيلة 20 عاماً على قائمة أكبر ثلاثة مستثمرين في البحث والابتكار. وبذلك، تواجه أوروبا خطر التحول إلى متحف صناعي.

ما السبب في ذلك؟ التجزؤ هنا هو الإجابة الرئيسية. بالتالي، فإن السوق الموحدة ليست قائمة فعلياً، من حيث المخرجات أو المدخلات، خاصة رأس المال. والقطاع الجامعي مجزأ أيضاً، وكذلك الدعم الشعبي للبحث والابتكار. والافتقار إلى التوسع والمجازفة يعني أن مصادر التمويل في الولايات المتحدة أكبر بكثير من الموجودة في الاتحاد الأوروبي. نتيجة لهذا، «يفضل كثير من رواد الأعمال الأوروبيين السعي إلى الحصول على التمويل من شركات رأس المال المغامر الأمريكية والتوسع في سوق الولايات المتحدة».

ويمثل الإفراط في التنظيم مشكلة كبيرة أيضاً. ويعود ذلك جزئياً إلى المحافظة المفرطة، وأيضاً إلى ميل الدول الأعضاء إلى فرض لوائحها التنظيمية الخاصة علاوة على لوائح بالاتحاد الأوروبي.

كما يؤثر التجزؤ على سياسة الطاقة والأمن، فليس هناك سوق متكاملة تماماً للطاقة، على سبيل المثال. كما فشل الاتحاد الأوروبي في دمج صناعاته الدفاعية ومشترياته من المعدات العسكرية، ويزيد هذا التكاليف ويقلل الكفاءة. هذا التجزؤ غير مقبول، خاصة وسط شكوك في مصداقية الالتزامات الدفاعية الأمريكية.

وانصب الاهتمام بشكل مستحق على تبني دراغي المدروس والمتطور لسياسات تجارية وصناعية أكثر تدخلاً. ومن مبررات ذلك، قلق الكتلة بشأن الأمن. ومن المبررات الأخرى أن الاتحاد الأوروبي لديه سياسة صناعية على أية حال، لكنها مجزأة والإنفاق عليها يهيمن عليه الدول الأعضاء الكبرى. والمبرر الأخير هو أننا نعلم أن السياسة الصناعية، إذا تم تنفيذها على النحو الصحيح، يمكنها تحسين المنافسة والرفاهة العالمية. ومن يعتقد الآن أن إنشاء شركة إيرباص كان خطأ؟ لقد كان بالتأكيد انتصاراً. الدرس المستفاد هنا هو أن مثل هذه التدخلات الكبيرة يجب أن تتم معاً، وعلى نطاق واسع وبأهداف واضحة. وسيتطلب ذلك إنشاء نظام طاقة جديد خال من الكربون كل هذا. وسينطبق الشيء نفسه على إنشاء قطاع دفاعي فعال.

لكن للأسف، فإن التفسيرات التي ذكرها دراغي لكثير من المشكلات، خاصة التجزؤ والمحافظة، هي أيضاً الأسباب وراء عدم تبني محتمل للحلول الجذرية التي اقترحها. وكما أشار «تتطلب السياسات الصناعية الناجحة اليوم استراتيجيات تشمل الاستثمار والضرائب والتعليم والوصول إلى التمويل والتنظيم والتجارة والسياسة الخارجية، وتكاتفها كلها وراء هدف استراتيجي متفق عليه». لكن تنفيذ الاتحاد الأوروبي لهذا سيتطلب إصلاحات جذرية.

ستصعب الشعبوية المتزايدة اليوم تنفيذ هذه الإصلاحات. ويواجه الأوروبيون خطر نسيان دروس الماضي. لن يتمكن الأوروبيون من تشكيل مستقبلهم إلا إذا تعاونوا معاً. نسي البريطانيون هذا الأمر، لكن هل بمقدور الآخرين تذكره، والتحرك على أساسه؟