عند إدارة شؤوننا المالية، يتجلى التوازن الدقيق بين التحليل العقلاني والوعي العاطفي والتفاعل الاجتماعي، كعنصر أساسي في اتخاذ القرارات الصائبة. وفي ظل مشهد مالي متقلب، يواجه الكثيرون منا ضغوطاً متزايدة لاتخاذ خيارات مالية مصيرية، وغالباً ما نجد أنفسنا غير مجهزين بشكل كافٍ لمواجهة هذا التحدي.

ومع اقتراب ميزانية أكتوبر في بريطانيا، أدّت التحذيرات من زيادة الضرائب المرتقبة، إلى دفع العديد للتفكير في منح الميراث مبكراً، أو بيع الأسهم والعقارات، أو تعديل مساهماتهم في المعاشات التقاعدية، أو سحبها حسب أعمارهم. لكن، هل هذه الخيارات صحيحة حقاً؟ وتزداد التعقيدات، في ظل عدم اليقين حيال كيفية أداء الاستثمارات، وسط تقلبات أسعار الفائدة، بالإضافة إلى التساؤلات حول مستوى الاحتياطيات النقدية المناسب، والتوقيت الأمثل لإعادة التمويل.

يمكن أن تبدو عملية اتخاذ القرار مربكة. لذلك، عندما علمت أن بنك «إتش إس بي سي» قد أجرى دراسة شملت أكثر من 17 ألف مشارك من 12 دولة، لفحص طرقهم في اتخاذ القرارات المالية، كنت متحمسة لاستكشاف النتائج.

وقد كشفت الدراسة أن أفضل القرارات المالية تنبع من كل من العقلية والمنهجية. إن وجود نظرة تفاؤلية، جنباً إلى جنب مع الاستعداد لتقبل التغيير والفرص المحتملة، والاعتراف أيضاً بأن النتائج قد لا تتوافق مع التوقعات، يشكل العقلية المثالية.

وبالنسبة لعملية اتخاذ القرار، أكدت الدراسة أهمية التوازن بين العقل والقلب والشبكة الاجتماعية. كما أن التخطيط الدقيق، والبحث الشامل، والتحليل الموضوعي، هي أمور أساسية بالطبع. علاوة على ذلك، كان من الضروري الانخراط في مناقشات حول الخيارات المحتملة مع شبكة واسعة، بما في ذلك الأشخاص الذين قد يحملون آراء مختلفة. وفي حين أن المشاعر يجب ألا تكون المحدد الوحيد في اتخاذ القرارات المالية، فإن تخيل كيف نشعر إذا اتخذنا أو لم نتخذ قراراً معيناً له قيمة خاصة.

وإذا كنت متردداً في اتخاذ قرار خاص بك، فقد أشار الباحثون إلى أن أحد العوامل الكبيرة التي تعزز الثقة في اتخاذ القرار، هو قابلية خططك للتكيف: قيّمت المخاطر، وأعتقد أن هذا هو الخيار الأفضل، لكن إذا حدث كذا، فسأقوم بفعل كذا. وقد يبدو الأمر سهلاً، لكن المناخ الحالي من عدم اليقين، يجعل اتخاذ القرارات المالية أمراً صعباً، ما قد يدفعنا لتأجيلها لفترة أطول، وهو ما يحمل تكلفة إضافية.

ومن الأمور التي تشغل بال الجهات التنظيمية المالية في المملكة المتحدة، هو سبب احتفاظ البريطانيين بمبلغ يقدر بـ 430 مليار جنيه إسترليني من «النقد الزائد»، بدلاً من استثماره في سوق الأسهم. إذن، ما العقلية التي يمكن أن تشجع المزيد منا على الاستثمار؟ وما الدروس التي يمكن أن يستفيد منها أولئك الذين استثمروا، ولكنهم يشعرون بالقلق؟.

يقول البروفيسور ديفيد تاكيت، الذي عمل مستشاراً أكاديمياً لبنك إتش إس بي سي في الدراسة: «الأمر الأساسي في اتخاذ القرارات، في ظل حالة من عدم اليقين، هو أنه يجب عليك قبول أنك لا تستطيع معرفة النتيجة».

وفي كتابه الصادر عام 2008، بعنوان «الاهتمام بالأسواق»، طلب من أكثر من 50 مدير صندوق نشط، أن يذكروا ثلاثة أمثلة لقرارات استثمارية كانوا راضين عنها، وثلاثة أمثلة لم يكونوا راضين عنها.

يوضح ديفيد تاكيت: «ما لاحظته، هو أنه لم يكن هناك شيء مختلف يمكن أن تراه أنت أو أنا في الفئتين من القرارات»، فقد تم بذل نفس القدر من البحث والنقاش في كلا القرارين، الشيء الوحيد المختلف، كان النتيجة. وهذا لأن النتيجة، بشكل أساسي، غير مؤكدة».

وحتى المديرون الذين اتخذوا قرارات استثمار صحيحة، اعترفوا بأن أداءهم المتفوق في بعض الأحيان، كان مدعوماً بعوامل لم يأخذوها في الاعتبار في البداية. ومع ذلك، عندما سُئل المديرون عن أسباب فشل بعض الاستثمارات، كانوا يميلون إلى لوم أنفسهم: «قالوا أشياء مثل، لم أعمل بجد بما فيه الكفاية، ولهذا السبب لم أنجح».

ومن المثير للاهتمام، أنهم رغم ذلك كانوا يتلقون مكافآت كبيرة لمحاولاتهم. وبالنسبة للمستثمرين الأفراد، فإن قبول أنه ليس كل قراراتنا الاستثمارية ستنجح، يمكن أن يكون صعباً، خاصة عند البداية. وتساعد الخبرة، واتباع نظرة طويلة الأمد، والتنوع، ووضع استراتيجية لمراجعة المحفظة بانتظام. وكما يعرف كل مستثمر في المؤشرات، أنه بينما يحقق بعض المديرين النشطين أداءً متفوقاً، فإن من شبه المستحيل عليهم أن يتفوقوا في الأداء بشكل مستمر.

ولأننا نجد جميعاً صعوبة في اتخاذ القرارات المالية، فقد حددت دراسة «إتش إس بي سي»، مجموعة واحدة تجد الأمر أكثر صعوبة، وهم الذين يتسمون بما يعرف بـ «التنوع العصبي». وقد يتجاهل بعض القراء ذلك باعتباره مجرد مصطلح طنان جديد، ولكن إذا كنت تعرف أحداً يعاني من اضطراب فرط الحركة، أو عسر القراءة، أو نقص الانتباه، فستدرك أن الصراع حقيقي.

وقد شعر ما يقرب من ثلثي المشاركين من ذوي «التنوع العصبي»، بعدم القدرة على إدارة اتخاذ القرارات المالية، وأعرب أكثر من نصفهم عن ندمهم على القرارات التي اتخذوها بشأن المال، وهي نسبة أعلى بشكل ملحوظ، مقارنة بالمشاركين العاديين.

وتستخدم كلير سيل، الكاتبة، مصطلح «ضريبة اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه»، لوصف كيف كان للتنوع العصبي التأثير في مواردها المالية، وتقول إن التردد في اتخاذ القرارات المالية، يكلفها أحياناً، مثل الرسوم المتأخرة إذا لم تدفع الفواتير في الوقت المحدد، وأسعار الفائدة المرتفعة على الديون، إذا تضرر تصنيفها الائتماني.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الإنفاق المندفع، يعد مسالة شائعة جداً. وإذا لم تتمكن من إعداد ميزانية بشكل فعال، تقل فرصك في الحصول على ما يُعرف بـ «النقد الزائد» للاستثمار. وقد أضافت «سيل» مزيداً من التعقيد إلى شؤونها المالية لمواجهة ذلك: «إذا كان كل ما تحتاجه هو نقرة واحدة لشراء شيء ما، فستكون أكثر عرضة للاستسلام لذلك الدافع».

والشعور بالندم حيال القرارات السيئة، هو الوجه الآخر لهذه العملة. وتقول: «الشعور بالندم يقوض الثقة، ويزيد من الاعتقاد المحدود بأنك سيئ في إدارة المال». ويمكن أن يسهم هذا في ما يُعرف بتجنب الطلب المرضي، والذي تصفه بالشعور بأن «حاجزاً ملموساً» منعها من التعامل مع شؤونها المالية في الماضي.

وهناك شعور بتفاؤل متزايد، لأن البنوك بدأت أخيراً تظهر مزيداً من الاهتمام بهذه القضية، التي تفتقر إلى البحث الكافي. علاوة على ذلك، يقوم بعضها بتطوير خدمات جديدة، لمساعدة العملاء ذوي الاحتياجات العصبية المختلفة.

يروج البنك الرقمي «مونزو»، لمجموعة من أدوات إعداد الميزانية الرقمية للعملاء الذين يعانون من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، بما في ذلك أداة فرز الرواتب الآلية، بالإضافة إلى إمكانية إلغاء خيار الاقتراض تماماً، وتحديد حدود يومية مخصصة لسحب الأموال من الصرافات والمعاملات باستخدام البطاقة. كما يقدم حساب الأعمال، إمكانية إنشاء «وعاء ضريبي»، يخصص تلقائياً نسبة معينة من المدفوعات لتوفيرها لفواتير المستقبل.

بالطبع، لا يتعين أن تكون من هذه الفئة للاستفادة من هذه الميزات. ولكن التفكير في احتياجات العملاء المختلفين، هو ما يؤدي إلى الابتكارات التي تساعد الجميع على الشعور بثقة أكبر في إدارة أموالهم. مع اقتراب الهيئات التنظيمية المالية من تمكين تقديم نصائح مالية مبسطة ودعم موجه، آمل أن نشهد مزيداً من هذه التطورات في عالم الاستثمار أيضاً.