واجهت المجتمعات الإنسانية على مر التاريخ، أوبئة فتاكة لا تعترف بالجغرافيا ولا بالاختلافات، ولا ما يميز هذه الدولة عن تلك، فأصابت أعداداً هائلة من البشر، وأودت بحياة الملايين منهم في فترات زمنية قصيرة.

وأثّرت تلك الأزمات على المجتمعات التي عاشت تلك التحديات الاستثنائية، إذ غيّرت جانباً من اتجاهاتهم القِيمية، وأثارت لديهم العديد من الأسئلة من دون إجابات شافية، وتركت تأثيرات كبيرة على التركيبة النفسية لأجيال كاملة، وأحدثت تغيرات هيكلية في بنية الاقتصاد.

وحتى يتضح المشهد العالمي الذي تعيشه البشرية في الوقت الراهن تبرز أسئلة محورية مثل: كيف ستكون طبيعة الأنشطة والأعمال التجارية ما بعد وباء «كورونا»؟ وهل ستدفع هذه الأزمة إلى إعادة التفكير في الكثير من أنماط وآليات العمل الحالية، بل وربما إعادة صياغة أخلاقياته؟

وأجرى «البيان الاقتصادي» استطلاعاً لآراء بعض رؤساء الشركات حول السيناريوهات المحتملة، التي تطرأ وستطرأ على أساليب العمل في الجانب الاقتصادي، وأجمعوا على أن الآثار التي يتركها فيروس «كورونا» أقل ما توصف بأنها مدمرة وإن كانت متفاوتة الحجم بين بلدان العالم، إلا أن هذه الأزمة الصحية سوف تفضي إلى انتشار تداعيات اقتصادية كبيرة، وهي انعكاس لصدمات تلحق بالعرض والطلب تختلف عن الأزمات السابقة، وسيتشكل اقتصاد جديد بعد انتهاء الأزمة، تتبلور حالياً ملامحه.

قالت غيتا غوبيناث المستشار الاقتصادي ومديرة إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي، إنه يتعين وضع سياسات جوهرية توجه لمساعدة الاقتصادات على تجاوز فترة انتشار هذا الوباء، مع الحفاظ على سلامة شبكة العلاقات الاقتصادية والمالية بين العاملين ومؤسسات الأعمال، والمقرضين والمقترضين، والموردين والمستخدمين النهائيين لكي يتعافى النشاط متى توارت هذه الفاجعة، وذلك بهدف منع الأزمة الجارية من إلحاق ضرر دائم بالناس والشركات من خلال فقدان الوظائف وحالات الإفلاس.

تغيرات هيكلية

وأكدت حليمة العويس، الرئيسة التنفيذية لشركة سلطان بن علي العويس للعقارات أن المستثمرين سيتكيفون على مستوى العالم مع متطلبات التغيير ما بعد الوباء وسيعثرون على محركات السوق الصاعدة التالية، لكن يجب عليهم أيضاً تجاوز تغييرات عميقة في النظام الاقتصادي والمالي. وبهذا المعنى فإن تداعيات تفشي فيروس «كورونا» ستظل تلوح في أفق المشهد الاستثماري في الأعوام المقبلة.

وأضافت: «تكافح بعض الشركات لمواصلة العمل عبر تقنيات التواصل على شبكة الإنترنت للتكيف مع الأسواق الفوضوية التي هزها فيروس «كورونا»، لكن ضراوة الاضطرابات الأخيرة في السوق تسببت في بعض الخسائر المؤلمة وتنتظر بيئة العمل العالمية تغيرات هيكلية، ويتوجب استشراف نوع التغيير الهيكلي الذي ينتظرنا ما بعد «كورونا».

تقييم الشركات

وقالت فريندا جوبتا الشريك الإداري، لـ «فازير جروب»، إن الشركات الصغيرة تتعامل مع التحديات الراهنة بشكل سريع لكن هناك تحد آخر طويل الأجل يعتمد على تقييم الشركات والاقتصادات ما بعد الوباء. وغالباً ما يزيل الركود العميق الجوانب السلبية التي تظهر في الدورة الاقتصادية السابقة، وهذا يسهل الانتعاش السريع.

وأضافت: ستصبح الشركات التي تنجو من الموجة المقبلة من حالات التخلف عن السداد أقوى مع تراجع المنافسة، في حين أن التغييرات المحتملة في كيفية عمل الأشخاص وتفاعلهم مع بعضهم بعضاً تقدم فرصاً للشركات بعد الأزمة الحالية. هذا قد ينشط دورة العمل التالية.

وأشارت إلى أن الحدود عادت بمنتهى القوة- مدفوعة بفيروس «كورونا». وعندما ينتهي الوباء، سيتم رفع الحواجز الأكثر شدة على السفر، لكن من غير المرجح أن تكون هناك استعادة كاملة لعولمة العالم، كما كان قبل «الجائحة».

انكفاء العولمة

ويعتقد جديون راشمان رئيس تحرير «فورن أفايرز» الأمريكية المتخصصة في السياسة الخارجية، أن انكفاء العولمة وارتدادها مرده 3 أسباب رئيسة هي أن الناس في أوقات الطوارئ يتمسكون بالدولة القومية، التي لديها نقاط قوة مالية وتنظيمية وعاطفية تفتقر إليها المؤسسات العالمية، كما يكشف المرض عن هشاشة سلاسل التوريد العالمية، ومن الصعب تصديق أن البلدان الكبيرة والمتقدمة ستستمر في قبول موقف يتعين عليها فيه، استيراد معظم إمداداتها الطبية الحيوية.

وأخيراً فإن الوباء يعزز الاتجاهات السياسية، التي كانت فعالة في الأصل، قبل اندلاع الأزمة، ولا سيما الطلب على مزيد من الحمائية وتوطين الإنتاج وضوابط حدودية أكثر صرامة.

ضرورة المرونة

وقال عمر سليم نائب الرئيس التنفيذي في شركة «بروڤن» لخدمات واستشارة الأعمال، لا بد للإدارة أن تقوم بجهود فعالة للتواصل الواضح مع الموظفين وتزويدهم بالإجابات التي يبحثون عنها. كما أن هذا هو الوقت المناسب للتعامل المرن مع تدفقات العمل وتكييف العمليات والإجراءات القائمة مع الحلول المتاحة.

وأضاف: يجب على الشركات النظر إلى عملياتها وإجراءاتها من منظور جديد تماماً. وأخيراً، لا بد للمؤسسات أن تكون واقعية في توقّع آثار الموقف على أعمالها وموظفيها وعلى سلاسل التوريد، فهذا هو السبيل الوحيد لتتمكن من الاستعداد بشكل أفضل للتغيرات المحتومة في السوق فيما يعود الوضع تدريجياً إلى طبيعته بعد السيطرة على الوباء.

فرصة للتجديد

وقالت أميرة سجواني، نائب الرئيس للعمليات في «شركة داماك العقارية»، إن الوضع الراهن يعد فرصة للتجديد في آليات عمل القطاع العقاري، حيث نعيش في بيئة متغيرة باستمرار تتبدّل معها تصورات الناس وتوقعاتهم.

وقد أصبح هذا التحدي اليوم أكثر تعقيداً وإلحاحاً، خصوصاً مع التغير السريع المرتقب في اتجاهات العملاء ما بعد الوباء، فضلاً عن التطور المستمر للتكنولوجيا والديموغرافيا والبنية الاجتماعية. هذه كلها تثير التساؤلات، وتنتظر إجابات من خبراء ومتخصصي القطاع العقاري، الذين أصبحوا بحاجة أيضاً إلى بلورة تصور جديد حول كيفية تصميم العقارات وبنائها وإدارتها.

خطط حذرة

أكّدت رينوكا جونجهالي، مستشارة تطوير أعمال ومؤسسة جوبيتر لإرشاد الأعمال في الإمارات أهمية وجود خطة واضحة في الشركات لمساعدتها في التكيف مع المستجدات الطارئة والأزمات، وأوضحت: يجب أن تشمل خطة العمل سيناريوهات عدة للحفاظ على العمل واستمرارية تشغيله بكفاءة علاوة على تأمين البيانات التي تعتبر من أهم أصول الشركات، بالإضافة إلى وضع قواعد لحماية العلامة التجارية والاحتفاظ بالعملاء مع تقليل وقت التوقف عن العمل، وهو ما سيساعد على تقليل خسائر الشركات في وقت الأزمات.

ويجب أن يكون لدى الشركات أيضاً احتياطي للطوارئ ليكون بمثابة وسادة ضد المفاجآت والأزمات المترقبة.

استراتيجيات

وقال فراس المسدي الرئيس التنفيذي لشركة «إف إي إم» العقارية، إن شركته من أولى الشركات التي بدأت تطبيق استراتيجية العمل عن بعد، ونحن نعتمد بشكل كبير بنسبة 90%على التكنولوجيا المتبعة في نظام الشركة، وكل شيء يتعلق بالتواصل الداخلي بين الموظفين أو بالتواصل الخارجي مع العملاء يتم حله عن طريق تطبيق الموبايل مثل توقيع أي نموذج قانوني من خلال التوقيع الإلكتروني (ديكيسون)، بالإضافة إلى ما يتعلق بتسليم واستلام المبالغ النقدية أو الشيكات المصرفية التي تكون عن طريق الوسطاء العقاريين مع العملاء.

وأضاف: «من ناحية آليات العمل في قطاع الوساطة العقارية بشكل عام هناك بعض التعديلات البسيطة والمؤقتة من قبل دائرة الأراضي والأملاك بسبب الظروف الحالية، مثلاً كان الوسيط العقاري في السابق لا يحق له التوقيع على عملية البيع والشراء من البائع أو المشتري حتى لو كان بحوزته وكالة قانونية ومصدقة أصولاً، أما الآن فيمكن للوسيط التوقيع على العقد بشرط ألا يكون وصيفاً لنفس العملية الشرائية.

وبالنسبة للتعامل مع العملاء فقد قمنا بتنفيذ أكثر من مئة جولة افتراضية تمكن عملاءنا من مشاهدة وزيارة العقار عبر الأونلاين دون الحاجة للذهاب لرؤيته على أرض الواقع».

إعادة تأهيل فرق العمل

قامت «ماجد الفطيم» بإعادة تأهيل 1015 موظفاً لديها عقب الإعلان عن تحول «كورونا» إلى جائحة، وقال آلان بجاني، الرئيس التنفيذي للشركة نحن ملتزمون بدعم موظفينا، وعملائنا وشركائنا، لا سيما خلال هذه الظروف الاستثنائية .

بينما نعمل على تضافر كل الجهود ورفع جاهزية فرق العمل لتلبية احتياجات عملائنا، نواصل التعاون مع كل الجهات المعنية لضمان تجاوز التحديات الحالية والحفاظ على سلامة وصحة الجميع. وأضاف أن برنامج إعادة تأهيل وتوزيع القوى العاملة لاكتساب مهارات وخبرات جديدة في قطاعات مختلفة خلال هذه الفترة.

استمرارية العمل أولوية

أوضحت عُلا حداد، المديرة الإدارية لقسم الموارد البشرية في بيت.كوم أن غالبية القطاعات تتأثر بالتغيّرات الحالية على سوق العمل والوضع الاقتصادي العالمي ولجأت اغلبها لنظام العمل عن بعد، بينما ما زالت الشركات الأخرى تترقّب الوضع الحالي والتطورات السياسية والحكومية والاقتصادية لاتّخاذ القرار.

وأضافت حداد: أصبح العمل عن بُعد وسيلة لاستمرارية الاعمال إلّا أنّنا نجد أغلب أصحاب العمل غير متأكدين ما إذا كان الموظفون سيحافظون على مستوى الإنتاجيّة ذاته، وإذا ما كانوا يملكون الأدوات والتقنيات المناسبة التي تمكّنهم من أداء عملهم.

الفيروس يكشف نقاط الضعف في الجهاز المناعي للشركات من الأزمات

قال جوليان بيركينشو، أستاذ الاستراتيجية وريادة الأعمال ونائب عميد كلية لندن للأعمال إن تفشي فيروس «كورونا» كشف مدى ضعف الجهاز المناعي للشركات وقدرتها في التعامل مع هذه الهزات المفاجئة، وعدم قدرة الكثير من الشركات المرموقة على مواكبة التحولات واسعة النطاق في الطلب وتوقعات العملاء، ويقدم جوليان بيركينشو طريقتين يمكن الاستفادة منهما والعمل وفقاً لهما: أولاً، بناء مؤسسة قادرة على السير بسرعة مزدوجة، بحيث يمكن مطابقة دورة صنع القرار الداخلية مع احتياجات العمل.

ثانياً، العمل على تعزيز جمع المعلومات في المؤسسة في الوقت الحقيقي. وهذا يعني بناء الأنظمة والقدرات التي تمكّن الأشخاص عبر المؤسسة من معرفة ما يجري في جميع الأوقات، حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات ذكية حول كيفية التصرف.

عدم اليقين

وأكد الدكتور ميشيل بورتشيل، رئيس مؤسسة غريت بليس تو ورك في الشرق الأوسط أن انتشار فيروس «كورونا» خلال فترة قصيرة أحدث آثاراً كبيرة على العالم وتم إغلاق الحدود وتراجعت الأسواق المالية وبات الناس لا يعرفون ماالذي قد يحدث لاحقاً، مشيراً إلى أنه وخلال أوقات عدم اليقين، من الطبيعي أن تقلق الشركات حول العالم حول الانعكاسات على أدائها المالي، وفوق هذا كله، وقد يكون الأكثر أهمية، عليها أيضاً الاهتمام بصحة وسلامة الموظفين بما في ذلك الصحة النفسية.

وأوضح أن الموظفين ينتظرون الآن ما ستقرره القيادات التنفيذية في المؤسسات التي يعملون بها لحمايتهم وحماية أعمال المؤسسات، وعادة ما يدفع الضغط والإلحاح إلى التصرف بسرعة دون التفكير وأخذ تبعات القرارات بعين الاعتبار.

ولفت بورتشيل إلى أن بعض الأساليب لقيادة فرق العمل خلال هذه الأزمة تتجسد في خطوات عدة أولها اعتبار تأثير الفيروس على الجميع، إذ يجب على القادة الأخذ بعين الاعتبار التأثير العاطفي والنفسي والجسدي وصحة جميع أفراد الفريق وعائلاتهم، ومن أجل اتخاذ قرارات حول كيفية مواصلة العمل، يجب الحرص على أن يواصل الموظفين عملهم بما يضمن الأمان المالي لكل منهم.

والأهم هنا هو أن يكون الحد من الميزات الصحية وتخفيض الساعات لكل موظف كملاذ أخير فقط، إذ يجب على المديرين إيجاد طرق لدعم موظفيهم مالياً، فالنسبة الأكبر من الأفراد ليس لديهم مدخرات للطوارئ، التي تشمل حالات تخفيض ساعات العمل أو فحوصات كوفيد 19 أو رعاية الأطفال وغيرها.

وعند الاضطرار لتخفيض الرواتب، فما يتم تطبيقه على شريحة الموظفين في قاعد الهرم الوظيفي يسري أيضاً على المديرين في قمة الهرم.

مستقبل مربح

وأكد بورتشيل ضرورة تجنب تسريح الموظفين قدر الإمكان، ومن الضروري أن يقوم المديرون بضمان مستقبل مربح لمصلحة جميع الموظفين، فيجب التخطيط لشهور مقبلة عدة ومراجعة التكاليف ومستويات الديون من أجل تمويل مسيرة الخروج من الركود.

وأضاف حمد المحمود، مدير مؤسسة الشارقة لدعم المشاريع الريادية «رُوّاد»، أن الظروف الاستثنائية الناجمة عن فيروس كورونا أسهمت في اتخاذ العديد من الإجراءات والمبادرات الرامية إلى ضمان استمرارية أعمال وأنشطة المشاريع المدعومة من المؤسسة، بشكل لا يؤثر على مستوى جودة وكفاءة الخدمات التي تقدمها لعملائها، مع التزامها في ذات الوقت بسلامة العاملين فيها وسلامة الأشخاص المستفيدين من خدماتها.