الطاقة في العالم العربي.. عصر الخيارات الجديدة

كان توفير الحلول التقنية التي تضمن للمشغلين «مرونة» أكبر العنصر الجوهري في تزويد أول تيار كهربائي مستمر تم اختراعه في العالم خلال القرن التاسع العشر، ليتطور القطاع إثر ذلك إلى سوق عالمية شهدت استثمارات بقيمة 718 مليار دولار أميركي خلال العام الماضي فقط، وفقاً لتقارير صادرة عن وكالة الطاقة الدولية.


وللمرة الأولى على الإطلاق، تجاوز الإنفاق العالمي في قطاع الطاقة الكهربائية إجمالي الإنفاق على موارد النفط والغاز والفحم مجتمعة. وأثمرت هذه الاستثمارات الضخمة عن توفر خيارات أكثر تنوعاً لتوليد الطاقة سواء في المنطقة العربية أو في العالم، بما شمل محطات توليد الطاقة بالفحم أو الطاقة الحرارية والنووية ووصولاً إلى مشاريع الطاقة المتجددة.


ووفقاً لتقديرات الشركة العربية للاستثمارات البترولية (أبيكورب)، فإن قطاع توليد الطاقة يستحوذ على حصة هي الأكبر (207 مليارات دولار أميركي تقريباً) وتكاد تبلغ ثلث حجم استثمارات مشاريع الطاقة المخطط لها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال السنوات الخمس المقبلة، والتي ستصل قيمتها إلى 622 مليار دولار. وستساهم هذه الاستثمارات بدور محوري في تغطية الطلب المتنامي على موارد الطاقة في المنطقة والمقدر بنحو 8 بالمئة سنوياً، على المدى المتوسط.


لكن السوق ما زالت بعيدة عن المرحلة التي تتوفر فيها الطاقة الكهربائية دون انقطاع في الدول العربية. ولدينا في الوقت الراهن طرفان مختلفان على هذا الصعيد، إذ تعتبر انقطاعات التيار الكهربائي نادرة في دول الخليج بفضل الركائز الاقتصادية القوية التي أتاحت إمكانية إنشاء بنية تحتية قوية ومتكاملة. ورغم ذلك، هنالك حاجة للوصول إلى مستويات إنتاجية أكبر لمواكبة النمو الصناعي المتسارع والدور المتنامي لدول الخليج في الأسواق التجارية العالمية - فعلى سبيل المثال، من المتوقع أن تستقطب دبي 25 مليون زائر إضافي خلال فعاليات معرض «إكسبو 2020»، أي ما يعادل خمسة أضعاف التعداد السكاني الحالي للإمارة.


ومن جهة ثانية، يعاني العديد من الدول العربية من انقطاعات التيار الكهربائي بسبب ضعف الاقتصاد وتداعي البنى التحتية القديمة، بالإضافة إلى المشكلات الأمنية. ومن هنا، فإن سكان غزة لا يحصلون على الكهرباء إلا لأربع ساعات في اليوم، وفي بعض أجزاء اليمن، يمكن ألا تزيد فترة توفر الطاقة الكهربائية على ستين دقيقة في اليوم. وبالمثل، تعاني مصر ولبنان والعراق ودول عربية أخرى من مشكلات فعلية تمتد آثارها على نطاق واسع يشمل الحياة اليومية والخدمات الأساسية وقطاعات الأعمال وغيرها.

وإذا ما نظرنا إلى اضطرار بعض المدارس إلى اختصار زمن اليوم الدراسي بسبب عدم توفر الكهرباء، أو تأثير ضعف تقنيات الاتصال على صفقات أعمال الشركات التي يمكن أن تساهم في تعزيز نمو الاقتصاد المحلي وتوفير فرص العمل المثمرة لشباب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذين يسجلون أعلى مستويات بطالة في العالم، فإننا نجد أنفسنا أمام تحدٍّ حقيقي ومثال واضح عن التداعيات السلبية لضعف البنية التحتية لقطاع توليد الكهرباء على المجتمعات المحلية.


لكن التحدي المشترك أمام الجميع هو بالتأكيد النمو السكاني الذي تتخطى معدلاته السنوية الـ10% في دول الخليج، فمن المتوقع أن يرتفع التعداد السكاني للمملكة العربية السعودية بنسبة 37% إلى 45 مليون نسمة بحلول عام 2050، على سبيل المثال.

ومن جهة أخرى، يتوقع أن ينتقل نحو نصف مليون شخص هذا العام إلى العاصمة المصرية القاهرة التي يصل عدد سكانها حالياً إلى 12 مليون نسمة، لتكون بالفعل واحدة من أسرع المدن نمواً في العالم.

وتشير تقديرات BP إلى استحواذ منطقة الشرق الأوسط على ما يقارب 8% من إجمالي الاستهلاك العالمي للطاقة في 2035، على الرغم من أن عدد سكانها لا يتخطى 4% من مجمل تعداد سكان العالم.

وتبرز من هذا المنطلق أهمية إيجاد حلول ذات كفاءة اقتصادية عالية تتيح للمشغلين التحكم بتوزيع الطاقة وفقاً لحاجة كل مدينة وكل دولة، كي لا يتحول النمو السكاني من مصدر للكفاءات البشرية الواعدة إلى عبء اقتصادي كبير على حكومات المنطقة.


ويمكن تحقيق ذلك من خلال التركيز على التقنيات التي توفر للمشغلين رؤية أوضح لتفاصيل عمليات منشآتهم، عبر توظيف الحلول الرقمية التي تشمل إنترنت الأشياء الصناعية والعدادات الذكية والأجهزة المتطورة للاستشعار وتحليل البيانات. فهذه الأدوات تمكّن فرق العمل من تحديد مشكلات الأنظمة التشغيلية وآثارها على عمليات التزويد والتوزيع في السوق. وتشير تقديرات شركة «إنيا للاستشارات» إلى أن طول شبكات نقل الكهرباء في العالم يبلغ 5.66 ملايين كيلومتر، أي 10% من المسافة بين الأرض وكوكب المريخ.


ويواجه منتجو الطاقة في الكثير من المناطق في العالم ضغوطات كبيرة لوقف عمليات منشآت التوليد الحالية، سواء لأسباب اقتصادية أو بيئية.


ونجحت دولة الإمارات في ترسيخ مكانتها الإقليمية الرائدة في قطاع الطاقة من خلال تطوير مؤسسة الإمارات للطاقة النووية لمحطة «براكة» بقيمة 20 مليار دولار أميركي، لتكون من بين مجموعة نادرة من مشاريع الطاقة النووية الجديدة، حيث ستعمل على تزويد 25% من الطاقة الكهربائية في الدولة عند تشغيلها كلياً في 2020. وتتمثل رؤية دولة الإمارات العربية المتحدة في تشجيع بقية دول المنطقة على اعتماد هذا النهج المبتكر، وهو ما تجسد في تخصيص المملكة العربية السعودية 80 مليار دولار أميركي لبناء 16 محطة للطاقة النووية خلال الأعوام الـ25 المقبلة.


وختاماً، فإن تنويع الخيارات المتاحة للأعداد المتنامية من المستهلكين يتطلب عملاً جاداً، فقد جاء وصولنا إلى هذه المرحلة نتاج قرنين من العمل والبحث والاكتشاف. لكن، وفي ضوء تنوع خيارات توليد الطاقة في العالم العربي، نكون قد أصبحنا بالفعل على الطريق الصحيحة نحو توفير الكهرباء لكل شخص، وفي كل مكان، وفي كل وقت.

* الرئيس والمدير التنفيذي لخدمات الطاقة لدى «جنرال إلكتريك» في الشرق الأوسط وأفريقيا