لم تعد التقنيات فائقة الحداثة، مجرد إمكانات عصرية يتفاخر البعض باقتنائها، ويتخذها مظهراً من مظاهر الوجاهة الاجتماعية. وحتى من المنظور العملي، لم تعد فائدة التقنية مُقتصرة على تسهيل التواصل بين البشر، بل اتسع نطاق أهمية التقنية، ليطال مفاهيم السيادة الوطنية والأمن القومي.
باتت دول العالم المُختلفة، تنظر إلى التقنية باعتبارها جزءاً من سيادتها. ومن هذا المُنطلق، بدأت تطمح هذه الدول إلى امتلاك التقنيات الخاصة بها، كيلا تكون بحاجة إلى استيراد تقنيات من دول أخرى، فيكون ذلك توطئة لنوع من الهيمنة، تُمارسه الدول المُصدرة للتقنيات على الدول المُستورِدة لها.
ونستعرض في ما يلي مفهوم السيادة التقنية، الذي بات يحظى بأرض صلبة لدى العديد من دول العالم، والتأثير الاقتصادي لهذا المفهوم، ونستشرف تداعياته المُستقبلية على قطاع التقنية، وأعمال الشركات العالمية الكبرى في القطاع.
الهيمنة التقنية
نشأ مفهوم السيادة التقنية، كرد فعل لما تُسمية الدول المُستورِدة للتقنية بـ «الهيمنة التقنية». وقد تتعدد أشكال هذه الهيمنة، وفقاً لادعاءات الدول المُستورِدة، كأن تحتكر شركات تقنية بعينها الخدمات والمُنتجات التقنية في البلدان المُستورِدة، أو أن تقدمها بأسعار أدنى كثيراً من الأسعار التي تبيع بها نظيراتها المحلية خدماتها ومُنتجاتها، على نحو يضر بمبدأ التنافسية.
وتطور هاجس السيادة التقنية لدى العديد من الدول، ليدخل في نطاق قضايا الأمن الوطني، وذلك بدعوى أن بعض كبريات الشركات التقنية العالمية، تنقل بيانات مُستخدميها في البلدان المُستورِدة إلى الأجهزة الأمنية في أوطانها الأم، الأمر الذي يُعد انتهاكاً لخصوصية المُستخدمين. وعلاوة على ذلك، طالت اتهامات بعض هذه الشركات، التقنية الكبرى، بأنها تستغل الإمكانات الفائقة لخدماتها ومُنتجاتها في التجسس.
الإيحاء أمريكي والتسمية أوروبية
وكان أول من أوحى للعالم بتبني مفهوم «السيادة التقنية»، هو الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وذلك عندما أطلق خلال ولايته التي استمرت مُدّة واحدة، حربه التجارية الشهيرة ضد الصادرات الصينية عُموماً إلى بلاده، مع التركيز بصفة خاصة على الصادرات التقنية.
وتضمنت حرب ترامب التجارية ضد الصين، حظر استيراد مُنتجات وخدمات شركة «هواوي» الصينية العملاقة للتقنية في الولايات المتحدة، ومُطالبة الدول الأوروبية الحليفة باتخاذ نفس الخطوة، وذلك بحجة أن الشركة تُزود أجهزتها ومُعداتها التي تنتمي إلى الجيل الخامس من شبكات الاتصالات، بتقنيات يستخدمها الحزب الشيوعي الحاكم في الصين لأغراض التجسس، وهو اتهام تُصر «هواوي» على نفيه، مؤكدة أنه محض افتراء، يدخل في نطاق تشويه السمعة، والمُنافسة التجارية غير المشروعة.
وعلاوة على ذلك، وضعت إدارة ترامب آنذاك، عشرات الشركات التقنية الصينية الأخرى، بخلاف «هواوي»، على القائمة السوداء، التي تعني أن الشركات والعملاء والمُوردين الأمريكيين ممنوعون من التعامل معها، وإلا تعرضوا لعقوبات.
وبعد انتهاء حُكم ترامب، ومجيء الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، ربما اتسم التعامل الأمريكي مع الشركات التقنية الصينية بنبرة أكثر هدوءاً وعقلانية، بالمقارنة مع تعامل إدارة ترامب، المعروف بمواقفه الهجومية ذات الطابع الانفعالي، ولكن هذا لا يعني أن هاجس الأمن القومي لدى الأمريكيين قد زال، أو حتى صار أقلّ حدة، إذ ما زالت الدوائر الأمنية الأمريكية تنظر إلى نجاح الصين في مجال التقنية، نظرة شك وارتياب.
وعلى الجانب الآخر، فليس موقف الصين تجاه التقنيات الأمريكية بأقلّ تحفظاً، إذ تتوجس بكين من التقنيات القادمة من «وادي السيليكون» الشهير في ولاية «كاليفورنيا» الأمريكية، لغرض يُعد مزيجاً بين الأمن القومي والسيادة التقنية الوطنية.
ويتجلى هذا الموقف المُتحفظ في حظر استخدام منصات التواصل الاجتماعي الأمريكية الأكثر شعبية، مثل «فيسبوك» و«تويتر»، في الصين منذ سنوات، واستبدالها بمنصات وطنية صينية. وعلاوة على ذلك، تتبنى بكين نفس الموقف المُتشدد حيال محرك البحث الأمريكي الأشهر «غوغل».
ولكن على الرغم من كل ما سبق، فلم يظهر مفهوم السيادة التقنية، ولم يتبلور في صورة مُصطلح تتناقله الألسنة، إلا على يد الأوروبيين. كانت دول الاتحاد الأوروبي، هي التي تلقفت إيحاء السيادة التقنية من ترامب، وصاغته في صورة مفهوم مُحدّد المعالم والأفكار، وهي التي أطلقت التسمية.
وبحسب «معهد فراونهوفر» الألماني، وهو مؤسسة بحثية مدعومة من جانب الحكومة الألمانية، فإن تعريف السيادة التقنية، هو: «قُدرة الدولة على تزويد التقنيات التي تُعد حيوية لرفاهية شعبها، ولقدرة حكومتها على التنافسية، وأيضاً على تطوير هذه التقنيات، من دون الاعتماد على طرف مُحدّد».
دور جائحة «كوفيد 19»
وكانت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، هي الشرارة الأولى التي أطلقت هاجس السيادة الوطنية في نفوس الأوروبيين. ومن المعروف أن القارة العجوز، تعتمد بصورة مُكثّفة على التقنيات التي تستوردها من طرفي الحرب التجارية، ما يعني أن أي قرار فُجائي أو خطوة عنيفة من جانب أي من الطرفين، قد تُلحق أضراراً جانبية بدول الاتحاد الأوروبي، وتعوق استخدام شعوبها للتقنية في حياتهم اليومية.
ولكن على الرغم من ذلك، لم يتبنّى مسؤولو الاتحاد الأوروبي، مفهوم السيادة التقنية بشكل فعلي، إلا في منتصف عام 2020، وتحديداً بعد تفشي جائحة «كوفيد 19».
لقد عززّت الجائحة أهمية التقنيات الحديثة، وأظهرت ضرورة أن تمتلكها الدول، بدلاً من استيرادها من الخارج، وذلك بعد أن فرضت الجائحة مفاهيم جديدة في الحياة اليومية، وممارسة العمل، كمفهوم العمل عن بُعد، الذي يقتضي الاعتماد على تقنيات الاتصال في تنفيذ الأعمال ومُمارسة الوظائف.
ونتج عن ذلك، أن قرّر الاتحاد الأوروبي استثمار مبالغ طائلة في تطوير عدّة مشروعات تقنية متنوعة، تتراوح بين إنتاج أشباه الموصلات، وبنية تحتية رقمية جديدة، وذلك بهدف تجسيد السيادة التقنية الأوروبية عملياً على أرض الواقع، من خلال إنهاء اعتماد سكان القارة العجوز، الذين يتجاوز تعدادهم الإجمالي 700 مليون نسمة، على التقنيات القادمة، إمّا من الولايات المتحدة أو من الصين.
وتعليقاً على ذلك، قال الفرنسي، ييري بريتون، مُفوّض الاتحاد الأوروبي للسوق الداخلية: «في مواجهة التوتر المُتزايد بين الولايات المتحدة والصين، لن يكتفي الاتحاد الأوروبي بمجرد المُشاهدة، فضلاً عن عدم رضاه بأن يكون أرضاً للمعركة».
وأضاف بريتون: «لقد حان الوقت لكي نحدد مصائرنا بأيدينا. ويعني هذا أيضاً تحديد الاستثمار في التقنيات الرقمية، التي من شأنها دعم سيادتنا ومُستقبلنا الصناعي».
التأثير الاقتصادي للسيادة التقنية
كأي شيء في عالمنا، فإن السيادة التقنية لها وجهان. قد يتمثل وجهها القبيح في تبني مزيد من السياسات الحمائية المُتشددة، على غرار ترامب، وهو ما من شأنه أن يعوق حرية تدفق التقنيات والمعلومات، التي باتت سمة مميزة لعصرنا الراهن.
وبحسب تعبير أوردته مجلة «إف دي آي انتيليجنس» البريطانية، في عددها الصادر منذ نحو أسبوعين، ففي ظل انتشار مفهوم السيادة التقنية، بات الوضع الراهن لدى عدد من دول العالم، وبصفة خاصة في أوروبا، أشبه بمن يصرخ في وجه شركات التقنية الأمريكية والصينية، وأيضاً اليابانية، قائلاً: «لا تلمس تقنيتي، أو حتى تقترب منها»!
ولكن على الجانب الآخر، فإن وجهاً آخر جميلاً للسيادة التقنية، يطل على العالم، حاملاً معه آفاقاً جديدة رحبة من التنافسية واقتسام سوق الرقمنة العالمية بين أطراف مُتعددة، كل منها يأخذ نصيبه العادل، بدلاً من احتكارها حالياً في أيدي حفنة من الشركات العالمية، لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد.
استحواذ «إنفيديا» على «أرم»
شهد فبراير الجاري، مثالاً حيّاً صارخاً على انتشار مفهوم السيادة التقنية، عندما انهارت الصفقة التي كان من المُفترض أن تستحوذ بموجبها شركة «إنفيديا» الأمريكية لإنتاج شرائح الحاسوب وأنظمة ألعاب الفيديو، على شركة «أرم» البريطانية لتصميم أشباه الموصلات ومُعالجات الحواسب والهواتف النقالة، من مجموعة «سوفت بنك» اليابانية الشهيرة.
ويُعزى سبب انهيار الصفقة، التي جرى الإعلان عنها لأول مرة في عام 2020، إلى معارضة الجهات المعنية بمكافحة الاحتكار في كلٍ من الولايات المُتحدة والمملكة المتحدة للصفقة، خشية أن يؤدي استحواذ «إنفيديا» على «أرم»، إلى احتكارها للتقنيات التي توفرها هذه الأخيرة، والتي قد لا تستطيع العديد من الشركات التي تنافس «إنفيديا» الوصول إليها بسهولة.
ومن المعروف أن «أرم»، تُعد من أهم مُزودي تقنية «إيه. آر. إم» على مستوى العالم، وهي تقنية تُستخدم في إنتاج أنواع من المُعالجات الدقيقة، التي تدخل في تصنيع غالبية الحواسب والهواتف النقالة ذات الإمكانات المحدودة، وذلك لقدرتها على توفير استهلاك الطاقة.
ويُعد فشل صفقة استحواذ «إنفيديا» على «أرم»، دليلاً جديداً على صعود مبدأ السيادة التقنية، ولن يكون الدليل الأخير، فمن المتوقع أن يحول هذا المبدأ ذي الشعبية المتزايدة، دون إتمام المزيد من الصفقات، التي قد تستشعر الجهات المعنية أنها تؤدي إلى مُمارسات احتكارية، أو تضر بمبدأ المنافسة العادلة.