لله في خلقه شؤون، وله وحده سبحانه الخيرة، حيث اختار سبحانه من البشر رجالاً اصطفاهم بالنبوة والرسالة، واختار أماكن جعل فيها العظمة كمكة والمسجد الأقصى، واختار من الأزمان شهر رمضان فخصه بفريضة الصيام، واختار من هذا الشهر الكريم ليالي هي أفضل لياليه وهي العشر الأواخر، واختار من هذه العشر الأواخر ليلة هي ليلة القدر، ليلة أنزل فيها القرآن الكريم على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.

سميت ليلة القدر بهذا الاسم لمكانتها ومنزلتها، وقيل التقدير، حيث يقضي الله سبحانه فيها مقادير العام، وقد ميز الله سبحانه وتعالى هذه الليلة بسورة كاملة تقرأ إلى يوم الدين هي سورة "القدر"، كما ورد ذكرها في موضع آخر من كتابه العزيز، فقال جل وعلا في سورة الدخان: "حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ".

شروط

قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وتتحقق المغفرة التي وعد الله بها عباده بثلاثة شروط، الأول: أن يوفق الله سبحانه عبده لقيام ليلة القدر، ولا يشترط قيام الليل كله، بل يجزئ قيام بعض الليل من بعد صلاة العشاء، وحدد بعض السلف ذلك الوقت بقدر ما تحلب فيه شاة.

والشرط الثاني الإيمان، فلا تقبل الأعمال من غير المؤمن بالله تعالى. والشرط الثالث هو الاحتساب، فيكون العمل خالصاً لوجه الله دون شوائب من حظوظ النفس والرياء والعجب والحسن الظن بالله. فمن حقق هذه الشروط غفر له.

وهذه الليلة المباركة فيها من الفضل العظيم والنفحات الربانية والسلام الذي يغشيها، فهي "سلام حتى مطلع الفجر" كما قال سبحانه في سورة "القدر"، خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد أخفيت ليلة القدر في العشر الأخيرة لحكمة ربانية، ولتكون دافعا لتنافس المتنافسين على اغتنامها والتعرض لنفحات الله في العشر الأخيرة من رمضان كلها، فتتضاعف الأجور وتحصل المغفرة.

علامات

ومع إخفائها، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن علامات تكون لهذه الليلة المبارك، ولا حرج في تتبعها للاستدلال عليها، منها أنها سلام، فالملائكة تسلم على الناس فيها، وأنها ليلة أمان وسكينة يستشعرها الناس، وأنها بلجة أي ليلةٌ ذات نور وضياء لما جاء في مسند أحمد "إنَّ أَمارةَ ليلةِ القدرِ أنَّها صافيةٌ بلِجةٌ كأنَّ فيها قمَرًا ساطِعًا"، ومن علاماتها كذلك أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع، صافية، لما جاء عند مسلم من حديث أبي بن كعب، رضي الله عنه قال: "أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها".

ومع قيام هذه الليلة المباركة إيمانا واحتساباً، ينبغي الإكثار من الدعاء والإلحاح على الله تعالى بالسؤال، وقد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "قلت: يا رسول الله! أرأيت إن علمت أيُّ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو، فاعف عني".

ولا يمنع ذلك من سؤال الله حاجات الدنيا والآخرة، فالإنسان لا تعد حوائجه، مع الثناء على الله تعالى وحمده أن وفق للوقوف بين يديه، وإحسان الظن بالله تعالى فهو الكريم الذي عم إحسانه خلائق.. نسأل الله أن يوفقنا لقيامها وأن يمنَّ علينا بالقبول والمغفرة فهو أهلها إنه غفور رحيم.