نادرة هي الكتب العربية التي يتجاور فيها نصّان من ماهية مختلفة: نصّ فني تشكيلي ونص الكتابة. قبل سنوات.. وبالتزامن مع معرضه، أصدر سعد يكن كتاباً تتجاور فيه لوحاته عن ملحمة جلجامش ونصوص الملحمة التي ترجمها إلى العربية والإنجليزية الباحث فراس السواح.

الكتاب الثاني ها هنا «نساء وطوفان سعد يكن» من إصدار دار كلمات للنشر والفنون بحلب، وبالتزامن أيضاً مع أحدث معارضه، تتجاور فيه لوحات مختارة من تجربته، مع نصوص عنها و حولها، لكل من: الأديب وليد إخلاصي، الشاعرة مها بيرقدار، منذر مصري.. الشاعر، سوسن سلامة الكاتبة، فيصل خرتش الروائي، والتشكيلي عصام درويش.

أكثر من أربعين معرضاً فردياً أقامها التشكيلي السوري سعد يكن منذ بدايات تجربته عام 1965، جعلتنا نعرف لوحته من كينونتها، ومن تفرّد كائناتها الهشة القلقة، حتى قبل أن نتأكد من توقيعه.

. لا أقصد الوجوه الإنسانية التي تتحول مع سعد إلى مرايا متطاولة موشورية، وبأكثر من سطح، لتعكس أعماق الناظرين إليها. الأيادي بأصابعها المتوترة أو المتراخية تغدو كينونة.. بذاتها ولذاتها، الأقدام العارية على الدوام سوى من قلقها المرمي بين تقاطعات الظل والإنارة.

يكتسب الظلّ في لوحات سعد يكن كثافة تعبيرية خاصة، وكذا.. تضاد الألوان حين يتوالد اللون من رحم نقيضه، وقد بدأ سعد أول معارضه بالأبيض والأسود ولا يزال يراودهما في سياق حنين غامض، أو ينزاح الأسود ليصير خطاً حين يشهق الأبيض بالزرقة، ليغدو في معارض لاحقة مضرجاً بالأحمر.هيولي ألوانه.. تلك، وخطوطه التي تميز لوحاته من حيث تتماهى في اللوحة، وتلك الظلال في جدلية النور والعتمة.

والتفسير البدهي يقول إن سعداً ابن مدينة مبنية على ذاك التضاد، بين حجر بيوتها وقلعتها وأسوارها، وبين رهافة غنائها الخاص والمميز، بين انغلاقها على خصوصيتها وبين انفتاحها على القوافل والأقوام والحضارات.

لكن سعداً.. لم يرسم حلب: أبواباً وبيوتاً ونوافذ مفتوحة درفاتها على انسياب الظل وتعرجاته بين الحارات، وإنما أعاد رسم خصائصها لوناً وخطاً وظلالاً.حتى ظننت أني اكتشف في نصّ وليد إخلاصي عنه، سرّ كثافة الظلال في لوحات سعد يكن!.

كتب وليد إخلاصي:

«في أواخر الستينات لفت انتباهي شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، كان يتردد على مسرح الشعب بحلب، مصطحباً أوراقه وأقلامه، ليبدأ الرسم أثناء التدريبات المسرحية، وهذا المكان.. المسرح، من أفضل الأماكن لمتابعة حركة الأشخاص، وتثبيت اللحظات التي يراها مع تداخل النور والظل والعتمة».

ويُضيء الشاعر منذر المصري، التشكيلي أيضاً، بقعة ضوء أخرى: «منذ بداية السبعينات صار لسعد يكن اسم وموقع في واجهة الفن التشكيلي السوري.. فما أن تمكن من أدواته، حتى استدار، ليس إلى اليمين أو إلى اليسار، بل إلى داخله، أي.. لأن يكون مأساوياً وفاجعاً».

يضيف منذر المصري:

«فوق سرير سعد، تماماً فوق الوسادة، لوحة تمثل الثور السماوي، كما يستهوي سعد أن يرسمه، خليطاً من ثور وخنزير بري وقط ضخم، بقرون وأنياب وأظلاف ومخالب وذيل معقوف وحراشف على الظهر. كيف لبني آدم غير سعد أن ينام وهذا المخلوق الشيطاني يزفر وينخر فوق رأسه؟!.

عندما استضافني ترك لي غرفته وسريره ونام على كنبة في غرفة الجلوس، أما أنا.. فلم أنم».

وتكتب سوسن سلامة:

«لحضور سعد يكن شكل احتفالي، وفي أي معرض يُقام له، تمتلئ الجدران حركة ولوناً ونضارة، وكأن المكان.. يتغيَّر».

ويكتب الروائي فيصل خرتش:

«تعرَّفت على سعد يكن في منتصف السبعينات، آنذاك كان ينتظر العمال وهم يغلقون أبواب المقاهي ليتسلل إلى داخل الفراغ معيداً ترتيب الكراسي، يجمعها، يُطبقها فوق بعضها بعضاً، يقف عند الباب، يراقبها ثم يعود إليها لتنسيقها وترتيبها من جديد.. وعندما أتقن هذه اللعبة، راح يجلس عليها من يرغب، حتى أدخلهم إلى الملهى الخاص به، وفوق الطاولات فرش مراراتهم وقسوة الحياة.. غربتهم، وحدتهم، وآلامهم».

ويضيف: «أحب سعد عمله، وسوف تعجب لهذا الفرح الذي يتملكه في داخله وهو يباشر عمله أو عندما ينهيه، حيث تتملكه سعادة طاغية وهو يرى الأشخاص الذين أحبهم وقد حوَّرهم عن شكلهم البشري ليخرج حالاتهم الداخلية إلى الخارج».

ويضيف: «حتى عندما عاد إلى التاريخ والأساطير والأيقونة، فإنه أكسبها معاصرة وحداثة، وقد تكون لوحة ـ صبري مدلل ـ شيخ الطرب في حلب من أعقد اللوحات وأكثرها حداثة، نقف أمامها فنسمع صوت المغني، ونُحسّ بالتأثر البادي على وجهه وهو يتمايل مع الآهات التي تنطلق من حنجرته، الجوقة تعصف وراءه، الألوان تتمايل خدرة منتشية، رائحة المكان تندفع عبر الموسيقى، وخلفية اللوحة تتماوج بالأزرق الفاتح والداكن المطعم بالسواد، واللون الأحمر يستلقي بجرأته على الأجساد، مخترقاً البياض».

وتكتب الشاعرة مها بيرقدار:

«عندما قرر سعد يكن رحلته، رحلة القفز من الحياة إلى الحياة، كانت رحلته مضنية وخلابة في آن معاً، لم يسأل لوحته أن تنطق، فقد نطقت من تلقائها باحت، صرخت، جمحت، هدأت، جُنَّت، ثم نطقت بأسمائها فتبررت».

ويلتقط الفنان التشكيلي عصام درويش أحد أسرار العلاقة بين سعد يكن وبين لوحاته:

«لمحت سعداً ذات مساء، قرب المركز الثقافي الفرنسي في دمشق، يشرف على إنزال لوحات معرضه من سيارة، كان يشبه قائد أوركسترا، أنيقاً ومرهفاً وشديد الثقة بما يفعله، وكان قد لف كل واحدة من لوحاته بورق فاخر، مثلما نتوقع أبهى هدية».

ويضيف: «يؤجج سعد يكن ناراً تكوي شخصياته، من حيث تُشكل حركات الوجوه والأيدي والأرجل إشاراتها التشكيلية الأهم، ساعياً لإزاحة الستار عن معاناة معاصريه والغوص في مشكلاتهم الآنية:

شعراء وأدباء، مثقفين ومغنيين، سياسيين، ورواد حانات، راقصات وأناساً عاديين يلتقطهم من أماكنهم في غفلة عنهم، ويخترع رموزاً تفلت من مكانها وزمانها الخاصين، لتتحول إلى شخصيات كونية، ويتحول قلقها إلى قلق مصير ووجود الجنس البشري برمته، وهذا يشكل أبرز وجوه تجربة الفنان سعد يكن».

ضم الكتاب لوحات مختارة من أبرز معارضه: الطرب في حلب، ملحمة جلجامش، نساء وطوفان، أيقونة حلبية معاصرة، الجدار، التحرر.. وجوهاً لنزيه أبو عفش، وليد إخلاصي، بائع الجرائد.. الذي اعتدنا رؤيته يومياً حتى افتقدناه، لؤي كيالي وهو يتماهى بسعد يكن داخل اللوحة وخارجها على الدوام.

نجم الدين سمان