«يجب أن نقتل جينات الشعر بالإبداع»

إلياس لحود يفتح النار على الحداثة العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أنا الآخر. لا وجود لا أنا بدون الآخر، لا وجود للآخر خارجي أنا. هذا هو الشاعر إلياس لحود، دقيق البناء في النصوص. يحسب لكل كلمة جملة وفاصلة وحساسيات شعرية خاصة، يرى أن القصيدة لا تعرف القوانين والشعر حالة انفجار إبداعية وثورية ترفض كل ما يكبل روح الإنسان، سيما الشعر الذي يعد الأكثر انحرافاً. كتب أجمل قصائده تحت أسماء: البيت، والمفتاح والنافذة... وهي مشاهد للغة. الكائن الذي يعيش ويتنفس ويحلم على طريقة الحلم ثم العلم، فهو سعيد بكتاباته ممتلئ بأقصى المتعة، وبأبعد الرغائب حين يكتب. «البيان» التقت الشاعر إلياس لحود في هذا الحوار:

ـ هل الدوريات الأدبيةـ الثقافية تخوض اليوم معركتها مع الزمن؟

ـ بداية لن أتكلم عما يدعى أزمة، الكلام هنا يكون تهرباً من مواجهة الأحداث، ماذا يفعل المثقف، أليس دوره أن يغوص في الأزمات، كل شيء عندنا متأزم وهذه ظاهرة سليمة، من طبيعة المتغيرات أن يبلغ الصراع تأزماته، إذا فلنتحدث عن ثقافة تريد وتطمح وتتمنى. المواجهة من طبيعة الأشياء أن تكون هناك أزمات، وحين نتحدث عن أزمة ثقافة عربية يجب أن تكون عندها أزمة، ماذا تفعل هذه الثقافة طيلة عهود وعهود؟

كانت ولم تزل ثقافة استسلامية، تستسلم للموروث تحت مبررات لا تقنع أحداً وتروج لكل مغشوش. الغش يبدأ من الأصالة ولا ينتهي في الحداثة. لذا هناك نتاج مغشوش روجت له الثقافة العربية تحت تبريرات غير مقنعه، وهذا النتاج ليس حديثاً وليس أصيلاً، وليس هجيناً، وهو برأيي نتاج استسلامي خانع. السلطان الثقافي يمارس سلطته من خلالنا وبنا وليس بالواسطة. نحن سلطة قائمة بذاتها تعيش بكلامها ولغتها وإبداعها.

كان لا مفر من البحث عن عناصر الأزمة وهكذا فعلت. هناك إعاقات ثقافية لا نرى عاهاتها لأننا أضعف من أن نرى هذه العاهات، في هذا الموج الصامت تفعل الثقافة العربية الآن، تفعل ضد نفسها أحياناً وهذا هو المطلوب لبناء ثقافة صافية، هل جاء زمن الحسم؟ الجواب نعم، جاء من زمن بعيد وتكاذبنا عليه وتسلّطنا عن كل مفاتيح خطابته ولم نحزن. الدوريات العربية الثقافية تعيش هذه الأزمات. تشرّح، تواجه، تبتكر الأساليب، تقاوم، لا تساوم، تتجرّأ بالعلم والمعرفة وأيضاً بالتكنولوجيا وكل نتاجاتها الحديثة. الدوريات العربية هذا هو مشروعها أن تدخل في الأزمة لا لمحاربة شيء بل لدراسة وتشريح كل شيء.

ـ هل الدوريات العربية ما زال يعاملها العرب بهامشية؟

ـ نعم، العربي لا يقرأ وأيضاً إنه يحارب القراءة، لا يهملها فحسب وإنما يحاربها، القراءة متعبة خصوصاً عندما لا تكون للتسلية، الفضائيات بهشاشتها الثقافية تساعد العربي على اللاقراءة، تقدم له ساعات من الاسترخاء الثقافي الفكري والعلمي وهو مواظب على هذا الاسترخاء بل ممروض به، كأن العربي يعيش ردة فعل ضد ماضيه كان يتنقل بصعوبة وهو الآن يدفع ثمن هذا التنقل القديم استرخاء دائما..

نقول المهم ألا نشغل رأسنا بالقصيدة أو بالنقد أو بالرواية. الرأي العربي بالنتاج الثقافي يتأثر إلى أبعد حد بردة الفعل هذه، قد يقال ليست كل البيئات العربية متشابهة في هذا، والحقيقة أن كل هذه البيئات متشابهة وإن ظهرت أحياناً مختلفة، النص آخر ما يهم العربي.

الحداثة ليست فقط آخر ما يهم العربي، إنما هي دائماً أول ما نحاربه بادعاء الأصالة الكاذبة والتراثية. حتى الآن نحن لم نحسم بأمر المصطلحات، نرث مفاهيم وندافع عن هذه المفاهيم الوهمية. ال«تابو» يحكمنا وهو برأيي أقوى من السلطة. «تابو» قوة منع رمزية، خطورتها عندما تتحول إلى قوة مادية ساحقة. «تابو» يعلن: المنع، القهر، الإلغاء، الإقصاء، الإدانة، التخوين، القتل على النيّات «نية» وليس على الهويات فحسب.. ماذا أقول أيضاً عن مجتمعات مبنية على «تابو».

ـ هل صحيح أن هناك تثقيفاً للجسد بمعزل عن ثقافة الروح خاصة في برامجنا وفضائياتنا؟

ـ الثقافة في المجلات وغيرها هي إضافة من الكماليات، لا برنامج ثقافي موجود على كل هذه الفضائيات، كأن اختصاص الفضائيات تقزيم الثقافة وتعظيم السخافة. لا أفكر بأن الذي اخترع هذا التلفزيون العجيب وهذه الفضائية الغريبة بكل وسائل بثها واستقبالها كان يفكر بأننا سنضع عليها هذا البرنامج..

يكفينا أن نقدم نموذجاً صغيراً من هذه الحوارات بكل صخبها وبكل كلامها التافه، الكلام التحدي والسطحي والمذهبي والطائفي، الكلام المتخلّف الجاهلي الذي تبثه البرامج في الليل والنهار. أنا ماذا أفعل بفضائية تدخل منزلي دون إذن؟ أنا محكوم بها ومجبر بها. فليقدموا لنا مادة صغيرة تنفعنا، من هنا واجب قيام صحافة ثقافية تشرّح وتحلّل وتدل. المسألة ليست تجارة ثقافة وحسب، ما نراه أن المسألة تجارية والثقافة في أسفل السلم السلعي هنا في مجتمع عربي استهلاكي يقلّد الاستهلاك العالمي بأكبر كمية من التخلّف.

ـ هل الحداثة مستوردة من العرب وهل العرب يملكون رؤية حداثة؟

ـ الذهن العربي مقاوم كبير للحداثة كطاقة، وقابل كبير للحداثة المزورة كموضة. العربي يرفض الحداثة حين تكون أصلاً كأصل ويقبل بها عندما تصبح تزويراً، يرتدي ويأكل ويشرب ويتكلم مثل الغرب ويحارب الحداثة الحقيقية الموجودة في الغرب. الحداثة ليست منتوجاً غربياً فحسب بل هي منتوج عالمي.

ولكن بما أن الغربيين طوروا علومهم وآدابهم وعقولهم أكثر منا، لذلك قبلوا بالحداثة ليس كمزور وإنما كأساس لبناء مجتمعات حديثة. أما نحن رفضنا الحداثة كطاقة للتغيير وقبلنا بها ومارسناها كعلمنة مفروضة وكفكر تهديمي نحاربه بقبولنا لسلبياته وليس لإيجابياته. نحن ضائعون، ليس عندنا علم عربي خاص، نحن نستعمل علوم الآخرين، العلم الخاص هو العلم الذي يؤطر داخل إمكاناتي أنا وداخل مفاعيلي أنا، ليس العيب أن أكون حديثاً إنما العيب أن أكون حديثاً مزوراً. فالقصيدة مثلاً ليس عيباً أن تكون حديثة أي حرّة ومستقلة بل العيب أن تكون مغشوشة ولا تحمل صدقها وصدق العصر.

ـ هل اخترقتنا العولمة ؟

ـ بعدما اخترقتنا العولمة بغير إرادتنا وبَعُدت عنا أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة، اكتشفنا أننا ضحاياها وقمنا نكافحها. العولمة اخترقتنا من زمن بعيد وهضمتنا تحت عجلاتها كما كان يقال وبعدما انتهى كل شيء قمنا نصرخ ضدها بعد أن افترستنا. برأيي رحمة كبيرة لنا أن تفترسنا هذه العولمة ربما لتقوم البقايا فينا بواجب المواجهة والدفاع عن الشخصية، الثقافة الحداثوية التي ندعيها ونفرط بها في آن معاً.

ـ هل تعتقد أن هناك هوّة بين مثقفي العامة ومثقفي النخبة؟

ـ هناك مستويات لمقاربة الثقافة الحديثة ومستويان آخران لممارستها. مسألة الثقافية الآن وقبل مئة سنة تكمن هنا، في هذا الحقل المعرفي من «المحرّكات» و«المحفّزات» الشعبية ذات الباعث الأفلاطوني، أقول رغم الدوكسا هذه: السمة الدامغة للثقافة في العصر التكنولوجي هي نخبويتها بمعنى عمقها وتكثيفها وحَوْزها على الحد الأقصى من المعرفي العلمي الأدبي، لا بمعنى عزل الثقافي عن الناس وهمومهم، بل بالعكس، فكل تَعَمُّق وتكثيف في أطر الحقل المعرفي يشكل تلبية أساسية لمطلبيات الأنتجانسيا التي تقود - كطلائع ـ المعرفيات عبر برامج العلم والتثقيف في المجتمعات الحديثة.

ـ كيف تمارس الثقافة؟

ـ قلت إن مستويي المقاربة للثقافة الحديثة يؤدّيان إلى مستويين لممارستها. العامة تمارس ما تحاربه وترفضه. تمارسه بجهل وعبودية بينما يكون ارتقاؤها العلمي الثقافي إلى مستواه، الذي يتطلّب بعض الاهتمام والجهد والتعلم الضروري، واجباً للعيش في العصر الثقافي لا قصاصاً .

كما تحاول بعض الأدبيات الشعبوية المنتشرة في اليوميّ، الذي يبثّ من مراكز تخلّف متعدّدة حتى على صعيد الصحافة الثقافية وبعض برامج الفضائيات كأن توحي به وتعمل بوعي سطحي ولاوعي عليه. نحن مثلاً نرفض الآخر بالمطلق لحظة نمارسه بالمطلق. لا نميّز بين فرنسا سارتر ومالرو وألتوسَّير ودوغول وفرنسا غلاة العسكريين المستعمرين في الجزائر. قلت مرة إن عداوة البعض لبعض الثقافات هي لأنهم كانوا فاشلين مدرسياً في تعلّم هذه الثقافات وشعوبها، وليس أبداً لسوئها أو لسلبياتها علينا التي تحاول تصرفاتنا العدوانية الثقافية أن «تُسقطها» في مجالها.

كثيراً ما نخوض معارك ثقافية في غير مكانها وأوانها.. لافتراس الوقت نخترع «آخر» ثقافياً ونحاربه على طريقة الآخر العدو، الآخر الغريب المرَضيّ.

ـ الآخر وأنت. كيف تقرأ أو تمارس في ثقافتك اليومية ذلك ببساطة؟

ـ : أنا الآخر. لا وجود ل«أنا» بدون الآخر. الآخر جزء تكويني وليس مكملاً وحسب ل«أنانا». لا وجود للآخر خارجي أنا. هو معي أو ضدّي موجودٌ داخلي. فيَّ. في تكويني البيولوجي والإيديولوجي وحتى الأناسي (الأنتروبولوجي). لماذا تُخيفنا هذه الكلمات (ولا أقول المصطلحات الحديثة للعلوم الإنسانية المعاصرة في حين أصبحت من المستهلك اليومي حتى عند العامة)؟

قليل من الجهد العلمي المحدد ونصحّح «خَطّنا» الذي نكتب به بقلمنا الناشف أو السائل. كثيرون منا خطّهم سيِّئ. ولأنه سيِّئ تعبيرُهم سيِّئ مثله وأحياناً أفكارهم ومكتوباتهم. مرة واحدة في حياتكم، كما كنت أقول لطلابي في الصفوف العالية: ضعوا أي كتاب أمامكم لثلث ساعة و«صوّروا» ثلاثة أسطر وحسب منه ثلاث مرات أو ستاً بدقّة وانتباه ويُصبح هذا الآخر (الخط الآخر) خطك الواضح أنت. وتتجاوز عقدة السِّين الموروثة من عدم التركيز والمبالاة إلى «أنا الكتابة الصحيحة» وتبدأ بدون عُقد، عن وعي ولاوعي، تمارس وجودك بدون مخاوف ومحبطات.

ـ هنا بالذات، في هذا الالتباس الثقافي العربي ومشتقاته، هل العلاقة بين الثقافة والسياسة وجهان لعملة واحدة؟

ـ الثقافة عندنا نحاول بقوة تأسيس هويّتها. هنا خطورة السياق للنخب العربية ومشتقاتها في المحيط والهوامش الإيديولوجية. أنساق البنى الثقافة غير مفروزة عن السياسي لدينا. السياسي يساوي السلطة. الثقافي تابع؟ الثقافي ملحق أو ضحية اعتقال أو مشروع إلغاء. التسُّلط «الرسمية» تستحوذ على المشهد كله وعلى الأدوات.

بعض الثقافي يتواطأ حتى ضد ذاته. يُبرّر. يفسّر بحمق ولا يؤوِّل بعمق. يتآمر وهو يئن أنيناً دائماً من «نظرية المؤامرة». من مئات السنوات ونحن ضحايا «المؤامرة». نعطّل أوقاتنا بصرفها في بورصة المؤامرة. مرة قلت علينا أن نبرع في اختراع مؤامرتنا لكي نطرد من تسلياتنا نظرية المتآمرين علينا. مجتمعٌ مترامٍ تمتصّه المؤامرة. منه ومن الآخر؟!

طبقة المثقّفين العرب اليوم تُساير أكثر مما تحاور.. تتحذلق مع شبهائها وتتملّق مع السياسيين محدودي الثقافة بارعي الخضوع للنظام الديكتاتوري الواحد، الذي يتوسّل الديمقراطية والحرية والخدمات والمشروعات وحتى العلوم والجامعات والصحف والحقول الثقافية والفنية والعلمية لتأبيد استمراره في الأبناء بعد الآباء على طريقة الأجداد الأحفاد الميراثية المشهودة بدءاً من تاريخ الطبري وحتى ما بعد انتقادات الجابري وعبد الرحمان الظاهرة والباطنة. عندنا نظام واحد للأنظمة العربية رغم اختلاف الشكليّات.

هل ثمة فارق بين جمهوري أو ثوري وملكي. في الثقافة أيضاً نظام واحد للثقافة العربية رغم الفوارق الطرائقية والأسلوبيات. لبنان استثناء نافر وحي تتم المحاولة لتدمير التمايز الثوري الثقافي فيه قبل تدمير نظام حلمه «السياسي الديمقراطي» ومنظومة بنيانه التكوينية.

ـ ننتقل إلى الشعر. شعرك وتنظيرك للكتابة الشعرية. لماذا الشعر الأجمل هو الأكثر انحرافاً؟

ـ الشعر السوي، ابن الحلال، ورثناه. وصل إلينا بأخلاقه النظمية الفاضلة. القبيلة تساوي القصيدة أو العكس. حتى في جميع العصور والأنظمة كانت العلاقة بالممارسة لا تنفي التداخل بينهما. إيقاعية الكتابة كانت انعكاساً للقائم الواقعي يومها والموروث بكل ستأتيكيته الآن وحتى إشعار آخر.

أقول السويّ، الحلال ابن الحلال، مطلوب أخلاقياً واجتماعياً (أُسرياً) إلى أبعد الحدود وأدقّها على شاشة الكمبيوتر الرقمية لدى مآمير النفوس. ليس مطلوباً وحسب بل واجبٌ ضروري لتسيير الأسرة والضمان الاجتماعي والصحي قبل الضمان الديني المذهبي... الشعر ابن الحلال هو متن يعاد إنتاجه على أساس انحداره من أصل يتكرر كما يقول جاك دريدا ولا يتغيّر.

بيروت ـ رانيا غانم

Email