عندما يتحكم اللصوص والدخلاء في مصير أصحاب الحق، وتضحي القوى السياسية بحياة الإنسان في سبيل تحقيق مصالحها، ويستسلم المثقفون والفنانون لليأس والانهزامية، ويضيق الخناق على رجل الشارع البسيط ويصبح محاصرا بالخوف ومهددا في يومه ومستقبله.. عندما يحدث كل هذا، فليس هناك تفسير، سوى أن العالم يعيش أوضاعا خاطئة ومدمرة وعلينا أن ننتبه.
مجددا تطل الفوضى على شاشة السينما المصرية في فيلم إبراهيم الأبيض للمخرج مروان حامد، والذي يعرض حاليا بالقاهرة بعد أسبوع واحد من عرض فيلم دكان شحاتة لخالد يوسف الذي بشر أيضا بفوضى شعبية عارمة.وبينما يتنبأ خالد يوسف بالفوضى ويرجع أسبابها إلى الظلم، فإن إبراهيم الأبيض يرصد مظاهر تلك الفوضى المتمثلة في سيطرة البلطجية وتجار المخدرات على الشارع، في غياب تام أو تجاهل متعمد لدور الشرطة التي لا تظهر إلا مرات نادرة طوال أحداث الفيلم المليئة بالعنف والدماء، وكأنه قصد إلى إحداث هذه الصدمة حتى ينتبه المجتمع لمدى العنف الذي بات يملأ الشارع المصري وبخاصة في المناطق العشوائية.
حيث يصور سيناريو فيلم إبراهيم الأبيض منطقة مصر القديمة وخصوصا عشوائيات (الأباجيه)، التي تضم أحياء السيدة عائشة وسور مجرى العيون وعين الصيرة، باعتبارها مستنقعا للمخدرات والبلطجية الذين لا يتورعون عن استخدام السلاح الأبيض ضد بعضهم البعض ربما لأسباب تافهة في كثير من الأحيان بينما تختفي الأسلحة النارية تقريباً.
يضم الفيلم شخصيتين أساسيتين الأولى إبراهيم الأبيض (أحمد السقا) والثانية حبيبته حورية (هند صبري)، وإلى جانبهما شخصيتان أخريان تؤثران في الأحداث بقوة هما صديق البطل عشري (عمرو واكد) والمعلم عبد الملك زرزور (النجم محمود عبد العزيز) الذي يهيمن على كل شيء تقريباً في المنطقة التي تدور فيها الأحداث.
وحكاية إبراهيم الأبيض تبدأ باغتيال سافر لقيمة العدالة، الأب والد إبراهيم يتم اغتياله بيد فتوة باسم سمرا، والأم تحاول حماية ابنها ولا تقوى على رد العدوان، والمحرض على القتل يفرض على الأم وابنها القبول بما جرى واعتباره قضاء وقدرا، مقابل أن يقوم بتربية ابنها الصغير إبراهيم، الذي أوصته أمه وهو طفل ألا يترك أحدا يدوس عليه ولو مرة واحدة، لأنه إذا حصل ذلك فسيدوم طوال العمر.
يشب إبراهيم وفي أعماقه بذرة انتقام من قتلة أبيه، يقتل من كان وراء قتله ثم يهرب.. وبعدها يندرج في عالم الجريمة وتجارة الممنوعات. يمتلك قوة البطش والجبروت المناسب للطريق الذي اختاره، يعاونه صديق عمره عشري وعندما تذاع شهرته يغريه المعلم عبد الملك زرزور بالمال والمكانة اللائقة ليكون ضمن رجال عصابته الزرازير.
يحب إبراهيم حورية ابنة الرجل الذي قتل والده، ولم يكن يدرك أن أمها التي كانت وراء الجريمة الأولى التي أودت بحياة أبيه، سوف تعود للظهور كي تحرض ابنتها على الانتقام من إبراهيم ـ التي تعرف تفاصيل ما جرى لوالدها من صحيفة قديمة احتفظت بها الأمـ هي حكاية غرام أشبه بقصة روميو وجوليت.
وهناك لاتزال حكايات أخرى تدور في نفس الفلك، فقد أحب الفتوة الكبير زرزور حورية، هام بها منذ صباها، وظل يتابعها ويرعاها ويقف إلى جانب أمها وشقيقها المتخلف عقليا، وأمام كل من يقترب منها.. بينما حبيبها إبراهيم يقسم بألا يلمسها غيره.
الفتوة العجوز صورة من الأب الروحي الذي لعبه مارلون براندو، والفتوة الشاب أحمد السقا صورة مكررة من شجيع السيما وفتوة الحارة، الذي يقتل وحده قطيعا من المجرمين، يتصدى لأعتى أشكال العنف ويخرج ظافرا إلا من دماء تغطي ظهره ووجهه، ويصرخ بصوته حتى يملأ صراخه كل مكان، ينتقم بجبروت المصارع، ويعيد إلى الذاكرة أسطورة خرافية عن الفرد القاهر التي صدرتها إلينا السينما الأميركية والهندية والأفلام الآسيوية مؤخرا.
من هذا المناخ الإجرامي الخالص المشبع بالدم إلى جانب قصة العشق الثلاثي، والصداقة الثنائية بين إبراهيم وعشري، يسقط الجميع في نهاية المطاف صرعى دوافعهم الغريزية، وصرعى الخيانة خيانة الصداقة، وخيانة الحبيب حورية، وخيانة المعلم الكبير زرزور للزرازير، الذين يقتتلون ويصرع بعضهم البعض في معارك تستخدم فيها الأسلحة البيضاء والشوم والكراسي الخشبية والموائد الحديدية في المقاهي البلدية.
يختم الفيلم الطويل الذي يمتد لما يزيد على 130 دقيقة أحداثه بموت البطل والبطلة في مشهد دموي جداً تتدفق فيه دماء كثيرة، رغم أن السينما المصرية اعتادت عدم إنهاء حياة البطل خوفاً على الإيرادات، التي تتأثر بذلك لنعود إلى التشابه مع دكان شحاتة الذي انتهى أيضاً بموت البطل.
ويلاحظ أن التعليل الذي قدمه مروان حامد لا يبتعد كثيرا عن تبرير حالة العنف والانفلات التي قدمها المخرج خالد يوسف لأحداث فيلمه دكان شحاتة مع فارق نوعي كبير، هو أن خالد يوسف انطلق بفيلمه من خلفية سياسية اجتماعية ارتكزت إلى بعد درامي، وهذا ما لم يتحقق في فيلم مروان حامد، فالسيناريو الذي يرتكز إليه فيلم إبراهيم الأبيض، والذي كتبه عباس أبو الحسن، استفاد من شخصية واقعية حملت الاسم نفسه، ليطلق العنف من أجل العنف دون تقديم مبرر درامي لكل الدماء التي لطخت بياض شاشة العرض، فجاءت هذه المشاهد تعبيرا عن عنف مجاني لا يقدم ولا يؤخر في أحداث الفيلم.
كما أن الاهتمام بإظهار قدرات أحمد السقا كممثل برع في أداء أفلام الحركة كان أحد عوامل ضعف الفيلم حيث لم تتح الفرصة للدراما التي طغت عليها مشاهد المطاردات والمعارك التي استحوذت على 80% من الأحداث.
ووسط هذا الدم كله يصور الفيلم أيضًا علاقة حب مستحيلة بين بطل الفيلم مع هند صبري التي قام والدها ووالدتها بالتسبب بمقتل والده، ويقوم بدوره بقتل والدها، وبرغم العنف والدم، تبقى هناك حالة الحب بينهما، وبدلا من أن يطور كاتب السيناريو علاقة الحب هذه لإحداث متغير في الدراما، إلا أنه جعل منها مبررا جديدا وأداة محرضة على زيادة مشاهد العنف في الفيلم وصولا إلى موتهما في أحضان بعضهما بعد معركة دامية.
وهذا أيضًا ينطبق على العلاقة التي تجمع أحمد السقا بصديقه عمرو واكد في كم الحب الذي يحمله كل منهما للآخر، إلا أن ذلك لا يمنع من قيام واكد بخيانة السقا في أكثر من مشهد منها محاولة الاعتداء على حبيبة صديقه، وفي نهاية الفيلم، بيع صديقه لعدوه اللدود محمود عبد العزيز.
وقد أجاد معظم ممثلي الفيلم الأداء.. فإلى جانب إمكانيات احمد السقا، أتقن عمرو واكد دور الصديق الذي يظل بجانبه حتى النهاية وقدم أداء خاصا بدقة.
كما أدى محمود عبد العزيز دورا رائعا غلفه حوار ساخر دفع بالضحكات في أرجاء السينما حيث أطلق عليه بعض النقاد لقب مارلون براندو العرب.
الموسيقى التصويرية أيضا لهشام نزيه قامت بدور بطولي في الفيلم، مع المونتاج السريع لخالد مرعي وحركة الكاميرا لسامح سليم، وهنا تشعر ـ رغم الملاحظات على القصة وكيفية معالجتها دراميا ـ أن مروان حامد مخرج له حضور قوي ومتميز وأن العناصر السينمائية حاضرة ومتميزة بشكل لافت، خصوصا المستوى الحرفي الجيد في التعامل مع عنصر الحركة وتنفيذها على الشاشة من الأشياء التي تستحق الإشادة، فمشاهد الجري الطويلة والكاميرا بينما تتابع الصبي الهارب من مطارديه.
والذي يقفز بخفة بين أسطح الأبنية المهدمة، والدروب الضيقة مراوغا الجميع مندفعا من مكان إلى آخر، في لقطة متواصلة ممتدة تكسر الزمن وتنتقل من دون فواصل أو حيل بصرية بين صبا إبراهيم إلى شبابه مباشرة، وكأنما كتب عليه أن يظل مطاردا حتى آخر نفس.
ويبقى التساؤل.. هل وظيفة السينما أن تشبع فقط غريزة العنف والشرور الآدمية وتستثمرها وتعيد تصديرها للاستهلاك هكذا دون معالجة جادة، تحرض الناس بأسلوب يوقظ ضمائرهم وتحفز أفضل ما في إنسانيتهم حتى تصبح أقوى في التصدي لهذه الظاهرة، أو حتى مسلحين ضد العنف فلا يصبح مجرد أداة للترفيه تجعل منه تحصيل حاصل وصفة سلوكية لا تثير النفور.
قد يقول البعض (نعم) ويجيب الآخرون ب(لا)، وبين هذا وذاك ومع تغير اللافتات والأقنعة، تنمو قوى الشر والعنف وتتكاثر، بأسماء جديدة وأساليب ناعمة متوحشة، جعلت العالم ساحة تغلي بالصراعات والمعارك والانتكاسات المريرة، فالأقوياء يزدادون قوة، والضعفاء يزدادون ألما وعجزا ومعاناة، وانعكس هذا على الإنسان ـ مهما اختلف موقعة على الخريطة ـ فأصبح محاصرا بالخوف وعدم الأمان، مهددا في يومه ومستقبله وحقه في الحلم، وبما أننا من دول تعاني المشاكل والهموم، وكأفراد نخوض يوميا معارك الحصول على الحقوق والاحتياجات الأساسية، لذلك فإن نظرتنا للسينما تختلف.
دبي ـ أسامة عسل