تتميز آلة الهارب بخصوصية شديدة، فبينما تنقسم الآلات إلى وترية وأخرى خشبية وآلات نفخ نحاسية، فإن «الهارب» يعتبر من الآلات النبرية كما «القانون»، لكن ليس له شبيه بين الآلات الكلاسيكية الأخرى..

وتعتمد أساس فكرته على تجويف خشبي جاف تشد عليه الأوتار فتصدر رنيناً ساحراً.. ولأن هذه الآلة ظهرت أول ما ظهرت إبان الحضارة الفرعونية، فكان من الطبيعي أن تجد من يحمل رايتها من المصريين حالياً، وهو ما تبوأته منال محيي الدين المصنفة ضمن أفضل عشر عازفات للهارب على مستوى العالم، والتي نتطرق إلى تجربتها في سطور الحوار التالي:تصنفين ضمن أفضل 10 عازفات للهارب في العالم.. كيف كان طريقك إلى هذه التجربة؟منذ طفولتي الباكرة، عندما كان عمري 10 سنوات بدأت أتلمس الموهبة بداخلي، ووجدت لدي أحاسيس جياشة نحو الموسيقى، والتي التقطها والدي الفنان يحيى خليل وهو أحد رواد فن العزف وكان من المحبين للعزف على آلتي العود والكمان..

فعندما وجدني مغرمة بالموسيقى، أدخلني معهد الكونسرفتوار، معتقداً أنني سوف أعزف على أي آلة عادية تتناسب مع كوني فتاة صغيرة رقيقة الجسد والمشاعر، إلا أنني دائمًا كنت أميل إلى اختيار الصعب وأعشقه..

وقد لمست أستاذتي ناهد ذكري ذلك، فاختارتني لأتعلم العزف على آلة «الهارب»، والتي شعرت بخوف شديد عندما رأيتها لأول مرة نظراً لضخامة حجمها، وغرابتها عن الآلات المعروفة، لكني سرعان ما أحببتها وتعلمتها، وتميزت فيها على الرغم من أنها صعبة جدًا.

عائد معنوي

وما الدافع الأساسي لارتباطك بهذه الآلة؟

آلة الهارب من الآلات الصعبة غالية الثمن، وكان من الصعب امتلاكها وكنت أتأخر في المعهد لساعات طويلة وذلك للتدرب على هذه الآلة، وهي لا تعطي ولا ترتبط إلا بمن ينجح ويتميز فيها، والدافع أنني منذ صغري كان واضحًا بداخلي التميز، فبعد 8 شهور من دخولي الكونسرفتوار وقفت على خشبة المسرح وعزفت 3 مقطوعات وكان عمري وقتها 10 سنوات، منها مقطوعة (قطتي صغيرة).

وتم إجراء إعادة صياغة لبعض أغنيات الأطفال من قبل المخرج جمال عبدالحميد، وعندما تعلقت بهذه الآلة شعرت أنها تعطيني عندما أبذل مجهودًا جبارًا فيها، ولها عائد معنوي عال جدًا، آنذاك تأكدت أنها ستكون حرفتي ومستقبلي.

ما مدى إحساسك وتواصلك بهذه الآلة؟

إحساس لا يتجسد ولا يصلح للقول، لكن دائما ما أجد بداخلي شعوراً تلقائياً بانتقال الإحساس والمشاعر من أعمق أعماقي إلى الجمهور، وهو شعور داخلي يسري في أوصالي عندما أضع يدي وتلمس أصابعي الآلة.

بين البداية والحاضر سلسلة من التحولات.. كيف ترين واقع تلك الآلة اليوم؟

معروف أن الهارب أقدم آلة في تاريخ الموسيقى، وهي آلة فرعونية كانت تستخدم في الطقوس الدينية في معابد القدماء، وحتى النقوش الموجودة على الآلة من صور للعازفات تؤكد ذلك، كما انتقلت هذه الآلة إلى حضارة بين النهرين وجنوب شرق آسيا، وعندما جاء الرومان إلى مصر نقلوها إليهم وطوروها في أوروبا خلال القرنين ال17 و18، لتصبح آلة كلاسيكية أساسية في الأوركسترا، حتى أخذت الشكل المتعارف عليه الآن منذ القرن ال19.

وهي آلة تتميز بالخصوصية الشديدة، تطورت في أوروبا ولها دور كبير في الموسيقى الكلاسيكية حيث الذوق الرفيع، لذلك أسعى إلى إعادة اكتشافها عربياً وتعريفها للجمهور.

ليست لدينا مدارس

حدثينا عن نوعية الحضور الجماهيري لحفلاتك؟

حضور الحفلات يغلب عليه الشباب والأجانب الذين يتذوقون هذا الفن الموسيقي، فضلاً عن كل من يجد في نفسه ذائقة الفن الراقي، وهي لا تخاطب الشباب بشكل عام، لكن فئة محدودة هي التي تأتي لمثل هذا النوع من الموسيقى.

وأحلم بانتشار «الهارب» على مستوى الجمهور العادي ومعرفته بها، فبينما تلقى إعجاباً من جمهور الموسيقى الكلاسيكية فقط، فإنني أطمح إلى أن يعرفها كل الناس، لذلك بدأت في الاشتراك بالآلة في عدة فرق تقدم الموسيقى الشرقية، فازداد الجمهور الذي يأتي لسماع «الهارب».

أي أنك استطعت تأسيس ذائقة موسيقية في العالم العربي لآلة الهارب .

يوجد مستمعون، لكن لم يصل هذا النوع من الموسيقى للعالم العربي، فللأسف الجمهور العربي نادراً ما يتذوق هذا الفن، والغالبية لا يعرفونه.. فضلاً عن انعدام المدارس التي تنشر هذا الفن بين الأجيال الطامحة إلى التعرف إلى «الهارب» وغيرها من الآلات المتميزة.

حتى في أوروبا هناك أشخاص لا يحبون الموسيقى الكلاسيكية ولا يتذوقونها، ولو أنهم تعودوا عليها ودرسوها في مدارسهم الكلاسيكية لأمكن زيادة الوعي الموسيقي. لكن المؤسف حقاً أنه لا توجد مدارس تهتم بآلة الهارب ولا الموسيقى عمومًا، ولا يوجد مهتمون ولا مقبلون على دراسة الموسيقى كما الاهتمام بالرياضة وكرة القدم.

وهل لديك التزام بمدرسة موسيقية محددة؟

بالنسبة للعزف على آلة الهارب أنتمي إلى المدرسة الغربية، لأنها من أهم من طور آلة الهارب وخطر بها حركة وتأليف وتطوير كبير لها.. وعمومًا أنتمي إلى الكلاسيكية، والعزف بها في كل العصور، كما أن الموسيقى العربية تستهويني وتلمسني بشكل شخصي.

ما أهم الحفلات في مشوارك؟

أي حفلة بالنسبة لي مهمة، مادامت بها جمهور يسمع ويصغي ويستمتع بما أقدم، خصوصًا الحفلات العامة سواء داخل أو خارج مصر.

ما المصادر التي تستقين منها معزوفاتك الموسيقية؟

أنا من المهتمين بالتراث، وأحب كل ما هو قديم، ليس في الموسيقى فقط، لكن في كل شيء، مثل طريقة لبسي في منزلي، وفي التحف، وكل ما أملكه قديم يستهويني ويقابل ذوقي الشخصي، وبالتالي ألجأ دوماً إلى التراث خاصة غير المتداول، فمثلا عبدالوهاب قدم أكثر من 60 عملاً لا يعرفها أحد، أنا أعرفها، لكن لا أقتصر على ذلك.

وأحب دائما التغيير لاختلاف الأذواق، فمثلا قد أقتبس موسيقى الأفلام وأمزجها بأذواق قديمة مثل رياض السنباطي وسيد درويش وعبدالوهاب.. كما أعشق أيضًا الرحبانية الذين أشعر بأنهم يلتقون مع الهارب، لأن لهم طابعاً كلاسيكياً شرقياً مختلفاً تمامًا.

عزفك على آلة الهارب.. بماذا يفيد المجتمع؟

العزف على الهارب حالة فردية بين عدة آلات أخرى، وليست الآلة التي تقدم للمجتمع، لكن الحالة الفنية التي تقدم هذه الآلة هي التي تؤثر في المجتمع، أمثال أعلام الموسيقى عمر خيرت ونسمة عبدالعزيز وفتحي سلامة ويحيى خليل ومجدي البغدادي وأشرف محروس.. لابد أن يكون هناك وعي مجتمعي بأهمية الموسيقى حتى تؤثر في المجتمع.

هل تتواصلين مع جمهورك على شبكة الإنترنت؟

«الفيس بوك» هو الأداة الوحيدة لي للتواصل، أقوم من خلاله بعرض جميع حفلاتي ومواعيدها وأماكنها، وأنا أعتبره وسيلة تواصل جيدة جدًا.

الموهبة لا تكفي

آلة الهارب تعتمد على الموهبة أم الدراسة؟

الموهبة عامل مهم وأساسي، لكنها لا تكفي وحدها، لابد أن تصقل بالعمل والثقافة والمعرفة، فأنا كانت لدي الموهبة واضحة جدًا، وعرفت أنها مستقبلي، لذلك درستها وركزت تركيزاً شديدًا فيها لاستكمال الموهبة وصقلها، والحمد لله نجحت وأخذت منحة ألمانية 4 سنوات بعد البكالوريوس وحصلت على أعلى شهادة في هذا التخصص وهي الدبلومة التي تعادل الدكتوراه.

ما ذكرياتك السعيدة والصعبة مع آلة الهارب؟

علاقتي ليست ذكريات، لكنها لحظات حاسمة وفارقة في حياتي، فمثلا اللحظات الصعبة التي عشتها مع الهارب عندما كنت في حفل نظمه الكونسرفتوار مع معهد جوته الألماني وأثناء تقديمي مقطوعة خاصة بي نسيت جزءًا منها، وقمت بإعادة العزف أكثر من مرة، ومع ذلك لم أتذكر ما نسيته، فانسحبت من الحفل وكنت تلميذه في المرحلة الثانوية..

وأسعد لحظات عشتها مع الآلة كانت أيضًا في المرحلة الثانوية، حين عزفت لحنًا شعبيًا إنجليزيًا للمؤلف جون توماس وقمت بعمل تنويعات جعلتني أشعر بأحاسيس لأول مرة أتذوقها في حياتي، وكنت أيضًا في الكونسرفتوار.

برأيك.. هل الأوبرا قريبة من الجمهور العادي؟

الأوبرا منارة للفن الراقي، وكيان هادف مليء بالمواهب، وهي مولد لكل مبدع حقيقي، لكن ذوقها بعيد عن الجمهور العادي، وإن كانت هناك صحوة بدأت تتزايد من خلال تزايد الإقبال على الحفلات التي تقيمها دار الأوبرا المصرية.

وما رأيك في الحالة الفنية الآن؟

الحالة الفنية الآن منحدرة، وليست الحالة الفنية فقط، لكن الذوق والثقافة العامة أيضا، فعامل السرعة الآن قضى على التذوق والإحساس بما يقال، وصار الذوق سمعي فقط دون تركيز أو تعليق.

ألم تفكري في إعداد فيديو كليب خاص بك خاصة أن الموسيقى لم تكن منتشرة؟

ليس المهم الظهور والانتشار، لكن المهم أن تترك أثرا في نفوس، وداخل من يفهمون ويقدرون هذا الفن، فليس كل مشاهدي الفيديو كليب لديهم الذوق السماعي للموسيقى خاصة آلة الهارب.

أخيراً، ما طموحاتك وأمنياتك في الفترة المقبلة؟

أتمنى أن تعود الموسيقى المحترمة مرة أخرى، كما أتمنى التعاون مع زياد الرحباني، لأنه فنان يحمل معاني جميلة.. وأتمنى أيضًا أن تصل موسيقى الهارب إلى جميع المستمعين وتظل مرتبطة باسمي مدى الحياة.

القاهرة - دار الإعلام العربية