(بيت القفل) عمارة خاصة عرفها الشحوح والحبوس

تراثنا كنزنا. الجذر الذي مهما علت شجرة الأيام وتزينت واختلفت الوان اوراقها، يظل يشدنا الى التربة والأصل. التراث ليس حديثا مضجرا، انه حكايات لا تزال تنبض بالحياة، تماما كما الجذور تنبض بماء الحياة.

وكثيرة هي التقارير التي تتحدث عن تراث الامارات، وقليلة هي المقاربات التي لا تقع في فخ الاطالة او الضجر، في زمن انصرف فيه الشباب عن كتب التاريخ، الى محادثات »التويتر« و»الفيس بوك« وال»يوتيوب«. »الحواس الخمس« اراد في رمضان أن ينبش في خزانة تراث الامارات، أن يذهب في زيارات خاصة تستقصي وتسأل وتتذكر، مع المعنيين. جلنا في جبال، وتمشينا على شواطئ. استمعنا الى نغمات كادت أن تندثر لولا حرص مجموعة من المتحمسين الى التراث، وجهدهم في الحفاظ عليها ونقلها من جيل الى آخر. جالسنا صيادين وحرفيين وشعراء، وتوغلنا في ذاكرتهم الفردية والجماعية، في ذاكرة الحنين. في رمضان نفتح كتاب الحنين الى الماضي الجميل.

عرف سكان الجبال الصخور صخرة صخرة وتميزوا بالقوة والصلابة فهم استمدوا قوتهم من الجبال، وهكذا كان سكان مناطق الجبال في شتى أنحاء البلاد منسجمين مع طبيعة أرضهم يعرفون أسرارها ويمتلكون مفاتيحها كامتلاكهم مفاتيح بيت القفل الذي قاموا ببنائه وهم منتقين صخور الجبل بعناية ليماثلها قوة وأمانا.

بيت القفل يمثل عمارة خاصة عرفتها قبائل الشحوح والحبوس التي سكنت رؤوس الجبال منذ مئات السنين فتميزت بقوتها وقدرتها على الانسجام مع ظروف الحياة الصعبة، وطوعت المعطيات الجغرافية من حولها لتناسب احتياجات الاسرة الجبلية وتفاصيل يومها، ومن الطبيعي أن يأتي البيت في مقدمة اهتمامات صاحب الأسرة الذي يتوخى حماية أهله وتوفير المسكن المناسب لهم، لذا جاء بيت القفل ليكون مصدر الدفء المقاوم لبرد الشتاء وأمطاره.

معدات بيت القفل

وحول حياة الجبال وماضيها يقول مكتوم أحمد الحبسي من إمارة رأس الخيمة: كانت حياة آبائنا وأجدادنا مرتبطة بالجبل، فقد عشنا وترعرعنا هناك، وكنا نبني بيوتنا في المناطق المرتفعة شتاء ولا ننزل إلى السيح إلا في الصيف وكان الرجل يبني بيته من »الحصا« أي صخور الجبال واللبن الذي يكون مصنوعا من الطين المخلوط بالتبن.

ويبنى سقفه من جذوع السدر أو السمر التي تقطع في مواسم خاصة لكي تكون مقاومتها للرطوبة وتغيرات الجو عالية جدا ثم يوضع فوقها ورق الصخر لحماية البيت من الرمة والحشرات وبعدها توضع طبقة كثيفة من الطين لمنع سقوط الأمطار، ويكون باب البيت من خشب السدر ويبنى البيت في عمق الجبل أو يحفر له في باطن الأرض ليوفر الدفء والأمان للعائلة فهو مخصص للإقامة فيه لفصل الشتاء.

وكانت البيوت الصخرية تنتشر بين الجبال ولا تكون متقاربا حفاظا على خصوصية كل أسرة وذلك حسب قول الحبسي: بالرغم من التواصل الاجتماعي والصلات الأسرية كان الناس ينتشرون بين الجبال ويبنون بيوتهم فيها، وكل شخص يعرف أراضيه التي ورثها من آبائه وأجداده ولا يختلفون على المكان وحتى الآن ما زال الناس يعرفون مواقعهم وجبالهم، والأسر المتقاربة تسكن في منطقة واحدة، وكانت متطلبات الحياة بسيطة تعتمد على الموارد القليلة التي كانت موجودة آنذاك.

زاوية المرأة

ويضيف: يحتوي بيت القفل تفاصيل حياة الأسرة البسيط إذ توجد زاوية مخصصة لإعداد الطعام وخزن كميات الحبوب البسيطة إضافة إلى مكان المجلس الصغير وأماكن نوم الأسرة، وكانت وتيرة الحياة تسير بشكل منتظم فمع ساعات الفجر الأولى تستيقظ المرأة لتجهز الفطور المعد من خبز التنور وتبدأ بتنفيذ مهامها الأسرية كجلب الماء ورعاية المواشي وحلبها وطحن الحنطة بالرحى وهي الطاحونة التي تصنع من الصخور أو الحجر الصلب وتكون على شكل قرصين دائريين يركبان فوق بعضهما.

ويحفر في محور القرص الأعلى حفرة يثبت فيها وتد معدني وهي من الأدوات التي تستخدمها المرأة في بيتها بشكل دائم وربما تعاونت نساء الأسرة على استخدام الرحى بسبب ثقلها وصعوبة العمل بها، وهي تسهم في تحويل الحنطة إلى دقيق لخبز التنور أو جريش يكون مناسبا للأطعمة المختلفة كالمقطع والهريس والعصيدة والخبيص وغيرها من الأطعمة التي يكون قوامها القمح.

كما تذهب المرأة إلى الجبل لجمع الحطب والتقاط الثمار المتنوعة التي تنبت في الجبال والنباتات الطبيعية كالحماض والخس الجبلي وغيرها من الأعشاب، وكان الرجال يتولون مهمات السفر وجني العسل والبيع والشراء والرعي والصيد إضافة إلى زراعة البر والفندال والرويد والبصل.

قصة الكفاح

كما يروي الحبسي قصة الكفاح الجبلية في الماضي قائلا: كان الرجل بعد أن يبني بيته يزرع قربه الحنطة والشعير في الوعب وهي منطقة خصبة مخصصة للزراعة حيث يجهز المكان وتبدأ زراعته مع بداية الأمطار.

ويكون هو مصدر الرزق الأساس للأسرة إذ يقوم الرجل بجمع محصوله بعد أن يكون قد جففه ودقه وصفاه ليخزنه في الينز وهو بيت صخري لحفظ الحبوب ليس فيه باب سوى فتحة صغيرة تكفي لشخص واحد، ويؤخذ من الينز كميات قليلة من البر تطحن لعمل خبز التنور الذي يسمى »سفاع« وفي ذلك الوقت كان الناس قانعين بأرزاقهم وليست لديهم أطماع ومتطلبات كثيرة.

البيت الجبليالبيت الجبلي الشتوي يبقى راسخا يتوسط الجبل وربما معتمدا على كهف من كهوفه، لكنه لا يصلح للسكنى في الصيف فحين تشتد الحرارة يغادر الناس بيوت القفل المرتفعة لينزلوا إلى الهضاب والوديان.

حيث لا خوف من السيول والأمطار فتنبسط الأرض ويبدأ العمل على بناء طراز معماري أكثر سهولة واتساعا من سابقه لكنه أقل قوة من سابقه إذ يبني أبناء الجبال بيوتهم الصيفية»العرشان« من سعف النخيل التي تستند إلى قواعد من الصخور وتسقف كذلك بالدعون.

ويبنى العرشان على أماكن مرتفعة قليلا وهي تنسجم مع موسم القيظ الحار إذ توفر تهوية طبيعية تخفف وطأته، كذلك يستفيد أبناء الجبل من موسم الرطب الذي لا يكون بعيدا عنهم فيتوجهون نحو مقايظ رأس الخيمة وبساتين النخل القريبة منهم، لكن الرحلات الجبلية سيرا على الأقدام لا تنقطع لأن الجبل حليفهم فهناك مواسم لجني العسل وصيد الطيور والأرانب والحيوانات التي كانت موجودة مع توفر الخصب والأمطار في المنطقة.

وأكثر ما يميز بيت القفل إضافة إلى عمارته الخاصة هو أن بابه يصنع من خشب السدر الذي يتميز بقوته الشديدة، إضافة أن مستوى الحماية في هذا الباب عالية جدا فهو لا يفتح إلا بأيدي أصحابة الذين يعرفون أسرار قفله، إذ تصنع مفاتيح تلك البيوت بطريقة خاصة يصل فيها طول المفتاح إلى الذراع، ويحفظ في مكان خاص يعرفه أهل البيت فقط، وإذا فقد المفتاح ولم يجده أهل البيت ليس أمامهم حل سوى كسر الباب وهي حالة نادرة جداً.

رأس الخيمة - مريم إسحاق

الأكثر مشاركة