عجلات السيارة تسير رويداً رويداً. تتذمّر الصبية المبرّجة الجالسة وراء مقود سيارة »تويوتا ياريس« اليابانية المنتشرة في لبنان كالنار في الهشيم. أصوات الموسيقى المنبثقة من قلب السيارات الفخمة ومن المطاعم والمقاهي، تزعجها.
»التكنو« يصاحب صوت أم كلثوم، والالكترونيك يضارب على أغاني نجوى كرم. تتناثر نغمات الأبواق مشكّلة نوتات موسيقية مزعجة. يلتفت شاب في مقتبل العمر من سيارة مجاورة وينصح السمراء الجميلة بلهجة كويتية، بالصبر. تبتسم معلنة أنها ضيّعت 51 دقيقة وهي تنتظر في زحمة السير الخانقة. يوافقها جارها في الانتظار الرأي مستغرباً: »عندما نظرت الى ساعتي خلت أنني مخطئ. لكنها حقاً العاشرة والنصف ليلاً!«. يصادف مرور مراهقة لبنانية سمعت الحديث للتو، »إنها بيروت يا عزيزي. ليل المدينة التي لا تنام«، تقول ضاحكة ثم تُكمل طريقها نحو أحد المقاهي مشياً على الأقدام.
الزحمة لم تعد تفارق شارع الحمرا منذ شهور. نبض الشارع الذي بدأ يستعيد حيويته على مهل منذ نحو سنتين، اكتمل مشهده الآن. وعلى عكس ما تُظهره الصحف اللبنانية وتلفزيوناتها من جو تشاؤمي وانتظار أن تشتعل الحرب بين الفينة والأخرى ووقوف لبنان »على كفّ عفريت« قُبيل صدور قرار المحكمة الدولية الظني حول قضية اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، يُعطي شارع الحمرا بصخبه نظرة تفاؤلية، خصوصاً مع اكتظاظه بالمطاعم والملاهي الليلية والمقاهي الجديدة. فيكاد لا يمرّ يوم حتى يكتشف أهالي هذا الشارع العريق الذي تغنى به الشعراء والكتاب والصحافيون العالميون، مقهى أو ملهى جديد.
وقد يكون الناس يرتادونه نظراً لنفحة الأمل هذه في هذا الشارع ومقاهيه التي تمثّل شيئاً من جلد الإنسان الذي يمرض ولا يموت، بل يُجدّد خلاياه بنفسه مقاوماً كل اعتداء أو فيروس أو بكتيريا.
تأبى جيسّي النقاش حول عودة شارع الحمرا التجاري إلى حيويته، رافضة أصلاً أن يكون هذا الشارع الذي دخل التاريخ وتسلّلت مقاهيه ومطاعمه إلى نصوص الروائيين والشعراء والقراء، قد مات يوماً. فنبض الحمرا حاضر، وإن كانت دقاته تباطأت حيناً وتسارعت أحياناً أخرى.
جيسي التي ترعرعت بين أزقته ودرست في مدارسه وجامعاته، ما زالت تصرّ على دوره الريادي في تكوين النسيج الثقافي الاجتماعي الملوّن لبيروت. لذلك افتتحت و3 أصدقاء لها مقهى »غرافيتي« في شارع المقدسي الموازي لشارع الحمرا الرئيسي، منذ سنتين.
لا يمكنك أن تسألها عن سبب اختيار المكان، فللشارع في ذاكرتها ومشاعرها جزء كبير. لكن لا بدّ من التساؤل حول مغامرة الاستثمار في هكذا ظروف أمنية وسياسية هشّة في البلد؟ بحدّة المدافع عن قضية، تؤكد أن تحديها كل الصعوبات جعلت دقات قلب الشارع تعود إلى ما كانت عليه في الستينات.
وتقول: »منذ سنتين طمحت وأصحاب المقاهي الأخرى أن ننشّط شارع الحمرا ليصبح ظاهرة ثقافية رائدة. واليوم أعتقد أن طموحنا تحقّق. والشارع يعجّ ليس فقط بالطلاب والمتسكعين ومحبيه القدامى، بل بالسياح ورجال الأعمال والفقراء والأغنياء. وهذه هوية شارع الحمرا«.
أمثال جيسّي ممن تلتقيهم في الحمرا على فنجان قهوة، أو فوق طبق شهي تفوح منه رائحة البهارات الأرمنية في مقهى »ريغوستو« كثر. حسام، الساكن في ضاحية بيروت الجنوبية واحد منهم، فهذا الشارع بالنسبة إليه »فريد من نوعه كونه يحضن الطلاب والمثقفين ومختلف الطبقات الاجتماعية من سكان وزوّار«.
أما سَحر، ابنة الأشرفية (المنطقة المجاورة في شرق بيروت)، فترى في الحمرا »نقطة التقاء لكل الناس حيث لا تسيطر عليه أية فئة سياسية معيّنة أو حزب أو طائفة. هنا يمكنني أن أحاور الآخر من دون أي وسيط«.
لكن ميسون، مصفّفة الشعر في أحد الصالونات في المنطقة، تنظر إلى الحمرا كسوق تجاري بحت، »تجدين فيه كل شيء، الرخيص والغالي، الماركات العالمية والوطنية«.
إذاً للشارع ميزات جمّة ومختلفة تجذب الزائر والمستثمر في آن. وقد تفسّر تلك الأجوبة على لسان روّاد الحمرا، ما يشهده الشارع أخيراً من افتتاح عشرات المطاعم والمقاهي والملاهي التي تتنوّع بين الجنوب أفريقي والإيطالي والصيني والياباني والأميركي والقبرصي والفرنسي واللبناني طبعاً. فالمستثمر يقصد عادة الأماكن الأكثر استقراراً، و»الحمراء هي نوعاً ما بعيدة عن التناحرات التي تشهدها شوارع العاصمة.
وهو ما يشجّعنا على اعتمادها كمصدر رزق«، يقول جيلبير المدير العام في شركة »بوبس غروب« التي تملك سلسلة مطاعم في لبنان وافتتحت مطعماً ومقهى كبيرين في الحمرا. يكاد لا يخلو مقهى »حمرا« الذي فتح أبوابه منذ شهر تقريباً في منتصف الشارع، من الزبائن حتى منتصف الليل.
لكن كيف استطاع أن يجذب كل هؤلاء؟ »إنه شارع الحمرا« يجيب جيلبير بثقة عارمة، ويضيف: »ليس عبثاً أن نختار الشارع الذي يعجّ بالفئات العمرية ما بين 51 و53 سنة، وهي الغالبة في الديموغرافيا اللبنانية.
كما لا ننسى أن سكان المنطقة وزوارها من أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة، وهم من يهدف المطعم إلى استقطابهم«. ويؤكد جيلبير »كنا ننوي أن التفتيش عن وسائل تجذب الزبائن غير جودة الأكل، لكن الإقبال المفاجئ والذي لم نتوقّعه، جعلنا نتوقف حالياً عن ذلك«.
تعرّض شارع الحمرا الى ما يشبه الانتكاسة ما بين العام 2000 و2005. وأقفلت معظم مقاهيه العريقة مثل »المودكا« و»الويمبي« وال»هورس شو« و»كافيه دو باريس« وغيرها من المطاعم والحانات الصغيرة. في هذا الوقت كانت شوارع أخرى تنمو وتكبر على حساب »شارع الثقافة«، مثل الجميزة ووسط بيروت التجاري.
لكن هذا الشارع العصيّ على الموت هو رحم المدينة بتنوعه الثقافي والطبي والطائفي، ويبدو أنه عندما صار على أهبة الموت غدا شهياً للمستثمرين الذين في معظمهم من أبنائه الذين ترعرعوا فيه أو درسوا في جامعاته.
بيروت ـ رنا نجار