ذلك الهدير المختبئ في نطقها للكلمة يبدو مخيفاً. كلمة مشحونة، لعلها تلخص كل شيء. تقولها ميراي معلوف في مشهد من مشاهد الفيلم، مع وجه متغضن بالأسى، حفرت فيه السنين آثارها. تلفظها بالفرنسية: "لا هين" la haine (الكره).

لا يغيب ذاك الهدير، بأي حال من الأحوال عن الرأس. رأس كل لبناني، في محاولة استذكاره شيئاً من تاريخ حرب أهلية وحشية اغتالت إنسانيته وأخلاقه و"تميزه". حرب صنعها فأحرق نفسه قبل أن يحرقه الآخرون. ومنذ أن اتفق "أمراء الحرب" على توقيفها (مؤقتاً؟) درجت العادة أن يتم التعاطي مع الصدى الرجراج للهدير، بأن يتم صم الأذنين عن الاستماع إليه، بحجة الخوف من استعادة مشاعر وميكانزمات الـ "هين".

ورغم تلك الطاقة المرعبة في الطريقة التي لفظت بها الكلمة من قبل الممثلة معلوف (في الفيلم ينادونها عمتو)، فإن فيلم اللبنانية الفرنسية جيهان شعيب Go Home هو، إذا ما أردنا تلخيصه.. دعوة إلى الحب!

القصة يمكن ايجازها ببساطة بإحدى تجارب العودة التي تخوضها لبنانية كبرت أثناء الحرب في فرنسا وعادت بعدها إلى بيت العائلة المهجور لكي تستعيد ذكريات واسرار تواطأ الجميع على دفنها في صناديق، تحت الارض، وفوقها.. حين يغدو الناس كما الصناديق بأرجل متحركة.

علينا أن نحب
علينا أن نحب.. لكي نقرر العودة، كما فعلت ندى، الشخصية المحورية التي لعبت دورها الممثلة العالمية ذات الرصيد المذهل من التنوع التمثيلي الإثني الكثيف غولشفتي فرهاني. نراها تقف، في بداية الفيلم، برداء أسود أمام عتبة بيتها الجبلي المهجور في قرية لبنانية، لتبدأ بمواجهة الجميع بعد ساعات من عودتها من المهجر: "هذا بيتي، أنا من هنا، ولن أغادر"، تقول ندى، بنبض، لا يمكن إلا أن يهز أركان قلوب أي من المشاهدين الرابضين، هم أيضاً، على نوستالجيا العودة.. إلى أي مكان أو أي شيء (ومن منا يخلو داخله من هذا الحنين؟).

علينا أن نحب.. لكي نتمكن من الوقوف في وجه سلطات متداخلة ومتواطئة، هي مزيج من التقاليد البالية والمصالح الدينية والتجارية، تريد أن تمنعنا من طرح الأسئلة، بحجة أن النبش في التراب، قد يوقظ الأرواح الغاضبة ويكشف الأسرار المزعجة، لكن ذلك النبش، قد يجعلنا نضع يدينا على كنوز صغيرة مدفونة، تحوي سكّراً وبراءة!

علينا أن نحب.. لكي نتجرأ على التذكر، وغسل تلك الذاكرة من أوهامها وأساطيرها، عن الأبطال والخونة، المنتصرين والمهزومين، الأبرياء والجلادين، الحرب والسلم، العاطفة والجنس، الدم والأخوة، الدين والسلطة.. حين نتجرد من الكراهية، بوسعنا أن نطرح أسئلة جريئة وواضحة "عما جرى" و "عن المستقبل"، كما فعلت مخرجة الفيلم وكاتبته شعيب، فيما يشبه شيئاً من السيرة الذاتية، التي تنضح بصور عن الحرب وأهلها وقريتها و"هجرتها" المبكرة إلى فرنسا حيث اشتغلت في صنعة السينما الوثائقية، قبل أن تخرج فيلماً، عرضه مهرجانا "بوسان الدولي" و"دبي السينمائي" خلال الشهور الأربعة الماضية، لا يمكن وصفه بأقل من.. فيلم السنة!

لماذا فيلم "روحي" (الترجمة العربية المبدئية للعنوان GO HOME) هو فيلم جدير بالمشاهدة، لا مرة واحدة، ولكن عدة مرات، لأسباب عدة، من بينها:
 

أولاً: الالتباس الجميل
المباشر مضجر والملتبس فيه سحر. الشك طريق اليقين، والبطلة، رغم يقينها الذي تبدى لنا، بأن ذاكرتها عن العائلة التي سكنت هذا البيت الجبلي الذي تربت فيه، هي ذاكرة واضحة، وباهية، خاصة فيما تبقى من سيرة الجد (تناديه جدو) بوصفه شجاعاً وبطل حرب دافع عن عرضه وحيطان بيته وأسوار حديقته "حتى الرمق الأخير".. بالرغم من قوة تلك النظرات، التي لا يمكن إلا لغير فرحاني أن تحدق عبرها كما يحدق الصقر في عيون مواجهيه..

إلا أن خلف هذه القوة والراحة المتبديتين، التباس، نشعر به من اللحظة الأولى. ضعف وعدم يقين. فالنور يحاول اختراق العتمة تحت سقف هذا البيت، لكن ثمة الكثير من الأشباح التي تهيم في كل مكان، في الممرات، وعلى الجدران، وفي كوابيس ندى، تمنع ذلك النور من أن يكون ساطعاً ونهائياً. لعل الشموع ونورها الذي ملأ الفيلم، أوفت تماماً بالغرض، والحاجة إلى الظلال التي تنسج خيالاتها على كل شيء: هل كان "جدو" بالفعل بطلاً؟ أم أنه كغيره "مجرم حرب"؟ هل هناك، في الأساس، في حرب لبنان، "بطل" و"مجرم".. أم أن جميع "الأبطال" و"المجرمين" هم، في نهاية المطاف، مغفلون، سفكوا الدماء من أجل.. لا شيء!

منذ المشهد الأول، وفي افتتاحية لعلاقة ملتبسة مع الضوء ستصاحبنا طوال الفيلم، تنظر ندى، العائدة بحقيبتها، إلى البيت، من خلف أصابع كفها، كأنها توحي بأن الصورة ستظل ملتبسة. لكن لا غرو من اقتحام هذا الالتباس، بدل الهرب منه، أو الجزم، الخاطئ، بوضوحه، كما تم التعامل، في الحالتين، مع ملف الحرب الأهلية، خلال فترة "السلم".

ثانياً: التشويق النفسي
نسجت الكاتبة قصتها بخيوط التشويق، وبدت متمكنة من ذلك، من دون أن يطيح هذا الأسلوب بعمق الدراما، النابضة بسيكولوجيا الشخصيات الأساسية والثانوية في الفيلم. إضافةً إلى ندى، التي نغوص في حالاتها النفسية المنوعة، بين القوة والضعف وبين الأمل وفقدانه، والاستسلام إلى الماضي أو رفضه؛ هناك شخصية الأخ سام (قام بدوره الممثل الواعد ماكسيميليان سيويرين، ابن معلوف في الحقيقة) الذي يحاول أن يداري عن أخته السر الذي جعله يلتحق بها إلى القرية، عائداً من داكار، حيث استقر مع الأب، بعد أن تشتت الأسرة بسبب الحرب: إنه هنا لكي ينفذ رغبة الأب ببيع البيت، والتخلي عن آخر جذر يربط العائلة الهاربة بأرض أجدادها.

ثمة أيضاً ظلال من التشويق ترميها المخرجة على إعادة استرجاع العلاقة الحميمة التي ربطت الأخ بأخته في زمن الطفولة: يوماً ما، ببراءة الأطفال، وسذاجتهم، قررا أن يدفنا في صندوق في حديقة البيت، كل ما قد يحتاجان إليه في حال قررا الهرب بسبب الحرب. في نهاية الفيلم، سوف ينبشان الصندوق، في ذروة نبش أسرار الجد، لكي يستطلعا ما كان فيه. ألعاب، ورسائل، وقصيصات، ورسومات، وحلوى، ورسالة موقعة "بدماء من أصابعهما الصغيرة" تؤكد على أن الصغيرين "يحبان لبنان.. إلى الأبد".

بلقطاتها المقربة، وصمت ساحر يسيطر على جو الفيلم، تمكنت شعيب من شدنا للمتابعة من البداية حتى النهاية.

ثالثاً: تجربة سينمائية مغايرة
على مدى أكثر من عقدين من الزمن، غرقت معظم الأفلام اللبنانية (غالبيتها منفذة مع إنتاج غربي وغالباً فرنسي) التي اقتربت من موضوعة الحرب الأهلية، في "كليشوية" ملحوظة، تتمحور حول يوميات ما جرى خلال الحرب، وكيف تعايش الناس مع حياتهم البائسة تحت سطوة القصف والقنابل، وتدبروا انهياراتهم الفردية والجماعية. نادراً ما ظهرت أفلام عن مرحلة "ما بعد الحرب"، تتخذ مسافة ما مع رائحة البارود، لكي تطرح الأسئلة: ماذا حصل؟ وكيف لنا أن نكمل؟

فيلم شعيب هو إحدى تلك المحاولات النادرة التي خرجت من "قارورة" مآسينا تحت القصف إلى نقاشات مستحقة (لا يجب أن تخبو حتى إلى يومنا هذا) عن مرحلة "البوست وور".

رابعاً: أداء تمثيلي مبهر
حين يتعلق الأمر بالموهبة التمثيلية لفرحاني، من الصعب الإجازة. لكن الوصف الذي أطلقته عليها المخرجة قد يفي بالغرض: "إن هذه الممثلة لا تتيح لك تصويرها، بل تصوير روحها". فرحاني، التي نتحضر لكي نشاهدها في إطلالة هوليوودية منفلشة في "قرصان الكاريبي" بجزئه الجديد.

هي فعلاً، تلك الروح الهائمة في دنيا السينما، تجسد شخصيات، تحفر علامات في وجداننا، بإنسانيتها المنسابة، وتنوعها الإثني، فهي، الإيرانية في الأصل، مرة أردنية ومرة أخرى هندية، أو عراقية كردية، أو فرنسية لبنانية.. تجارب تتفوق فيها الممثلة التي بات لها جمهور في العالم العربي لا يستهان به، دعم من الحفاوة التي استقبل بها الجمهور الفيلم، حين عرضه في "دبي السينمائي" الأسبوع الماضي. تمثل غولشفتي فرهاني بطاقة تشعل عينيها طوال الوقت، مهما كان الاحساس الذي تختزنه هاتان العينان، وتجعل حركة جسدها المتوترة طوال الوقت، تقول ما لا تبوح به الكلمات.

من جهته، ماكسيميليان، الذي اكتسب خبرات أكاديمية مهمة في أرقى مدارس الدراما الأوروبية، نجح في أن يجسد التباسات شخصية تجمع بين الحنان ورفض التعلق بالماضي، وبين العملاني وشخصية "البزنس مان" المقرب من والده، وبين اللبناني الغربي الذي يخاف أن يعود إلى فخ المحلية واللبناني الغربي الذي يتوق للعودة إلى الوطن. إلى "الهوم".

جوليا قصار، كعادتها، تنجح، كما فعلت القديرة ميراي معلوف، في كل مرة، بأن "تفترس" الكاميرا بحضورها الكاريزمي، ولو في لقطات قصيرة. وهي في هذا الفيلم. أما فرانسوا نور، الذي يلعب دور الشاب المراهق الذي يحوم حول ندى وبيتها، ويرغب من التقرب منها، ويساعدها فعلاً في محاولة نبش تراب الماضي، فهو موهبة واعدة، لو تأتت رعايتها، سننتظر ممثلاً واثقاً. ثمة أيضاً حضور محبب لمحمد عقيل ونصري الصايغ وشربل اسكندر وميشيل اضباشي، نجحت شعيب بإدارته.

في قبور الحرب الأهلية في لبنان صناديق من زمن سابق، زمن البراءة المعبأ بالسكر.. لا غرو اليوم من تفقدها!