لمشاهدة الجرافيك بالحجم الطبيعي اضغط هنا

بلغت الأسرة المالكة الكِندية العربية أوج مجدها وسلطانها على مسرح التاريخ قبل الإسلام، لتتسلط عليها أبرز القصص، إذ أشاروا لها بالبنان طويلاً. وإن تتبعنا الروايات العربية بشأن هذه المملكة، كندة، فهي قليلة ومختلفة، إضافة إلى التأويل والبون التاريخي، لكنني هنا أقف على الملموس من آثارها التي خرجت من معبد هذه المملكة، وقبور ملوكها الواقعة في قرية الفاو، التي تميزت عن كل القرى بالمملكة العربية السعودية، هي قرية أثرية كانت تسمى من قبل أهلها «كاهل»، وهي ذاتها «ذي كهل»، التي كانت عاصمة لمملكة كندة العربية الأولى، وذي كهل كان اسم أكبر آلهة ضمن كندة في القرن الرابع ق.م، الذي هو أقدم ذكر لها.

الفاو

قرية الفاو ذات المساحة الصغيرة بتلالها الأثرية المنتشرة ومباني أبراجها، أخذتنا إلى فحصها ونبشها لاكتشاف ما خبأه الزمن السالف، لكن بخروج النصب الجنائزية، بعد سقوط سور القرية الذي لم يقاوم عمره، انبثق من جديد القصر، والسوق ومقابر الملوك والمعبد، ليتم إخراجهم من تحت الرمال بعناية، خاصة المعبد الذي يُعد أول معبد يكشف عنه في داخل المملكة العربية السعودية، وما إن وُجدت التماثيل البرونزية الأثرية العائدة لدولة كندة، منحت قرية الفاو بُعداً حضارياً وتاريخياً للجزيرة العربية.

خط المسند

اعتمدت مملكة كندة المتحضرة خط المسند للكتابة بهدف توثيق دورها التجاري والسياسي بينها وبين الآخرين، وقد قدسوا الكتابة، فهي المسعى للتعبير عن العبادة والتجارة والسمعة، ما بعث على الإعجاب بذلك المجتمع المتعلم الذي كتب في كل موقع وزاوية وحتى سفوح الجبال وعلى أدوات الحياة اليومية المستعملة كالأواني والتماثيل والأوزان والجرار والجدران، كما كشف قلم المسند عن أهل كندة ومشاعرهم وعواطفهم ومشاكلهم، وعرّفنا على أهم المعبودات وأسمائها من «إل» و«اللات» و«العزى» و«مناة» و«ود» و«شمس» و«عثر» و«أشرق»، والكثير مما جعلنا نفكر في مدى التشابه بين آلهة الجنوب وآلهة الشمال في الحجاز والعُلا. لينتشر خط المسند من خلالهم إلى ممالك عربية أخرى، فكتبت به في مملكة ديدان ومملكة اللحيان في جزيرة العرب.

معبد «التن تبه»

إن عُدنا إلى التماثيل يتَبَيّنّ من تلك المخرجات عن مدى ارتباط هذه الحضارة بحوض البحر المتوسط ووادي النيل وبلاد الشام، بدليل تشابه الخطوط بين المعبدين «ذي كهل» في الفاو ومعبد الأوراطي «الواقع بين شمال سوريا ومدينة «ألتن» الأناضولية من ناحية الساحة الخارجية المرصوفة بالحجارة، ومن حيث عناصر المعبد وبوابته وتشابه التماثيل المعبودة، رغم البعد الزمني بين المعبدين الذي يصل إلى ستة قرون، فمعبد الفاو يعود إلى القرون الأولى للميلاد، بينما معبد «التن تبه» يعود إلى ما بين القرن السادس والسابع قبل الميلاد.

تؤكد لنا هذه التماثيل مدى تفوق نحات القرية وبراعته في مزج ذوقه الخاص النابع من أصالته العربية وهويته وذاتيته، التي تعكس بيئته الخاصة وتبين التأثيرات الخارجية من محيطه وثقافته.

دلافين

التماثيل الحيوانية كانت مفاجأة كبرى للباحثين، خاصة تماثيل البرونز للدلافين، التي تمثل حيواناً بحرياً، ونحت وكأنه يسبح بانسيابية جميلة وعالية، وإن عُدنا للعبادات الوثنية ودلالات الدلافين، فكان الاعتقاد سائداً آنذاك، بأنه حيوان يمثل الحماية والوقاية من الخطر في البحار والصحاري معاً، فقد أعطت المنطقة الصحراوية كلها في الأنباط والبتراء ووادي رم وخربة براك، أهمية كبرى للحيوانات البحرية خاصة الدلافين والأسماك وسرطان البحر، ورسمتها ونحتتها في معابدها، كما قدستها عند الآلهة.

كما عثر على تماثيل لجِمال برونزية ورؤوس للأسود والوعل بقرون نافرة، إضافة إلى أجزاء لجسد كذراعين من البرونز تم صبهما ببراعة فائقة ولأصابع رقيقة ويد مقبوضة، وساق وأقدام وتماثيل حجرية وخزفية وطينية وقطع مرمرية وأخشاب وعظام ومنسوجات وعاج وكؤوس وحلي ومسكوكات فخار وزمزميات.

رسومات تعبيرية

أما الرسوم الفنية في القرية فإنها تمثل قمة التطور الفني إذا ما قورنت بمثيلاتها في البلدان الحضرية المتاخمة، من حيث الدقة والتناسق وموهبة الفنان، سواء داخل المنازل أو على سفوح الجبال أو الجدران، لنتأكد بهذا من أن هذا الفنان كان يملك كياناً مهماً له دوره الاجتماعي البارز. نجد رسماً لشخص يمتطي صهوة جواد كتب على رأسه الملك أو آخر اسمه سالم بن كعب، ومناظر لكلاب وكواكب وقصور وأشكال تجريدية للناس والشوارع..وهناك رسوم فنية لامرأة ومبخرة وإنسان يملك بخطام جمل، وزخارف لكروم العنب واحتفال ورقص.

مقابر الملوك

لحسن الحظ أنهم دونوا بخط المسند شواهد قبور الملوك وأعمالهم، وذكر فترات حكمهم مع سنة الميلاد والوفاة، ورغم أن هذه القبور الكبيرة هي في أسفل الأرض ضمن غرف وأقبية وبوابات، طالتها أيدي اللصوص في الفترة الإسلامية الأولى، وسُرق الثمين من المذهبات المدفونة مع كل ملك، ولكن اللصوص تركوا لنا التماثيل والشواهد، فكان لنا النصيب الجيد للبحث في تاريخ المكان من خلالهما، فعثر على قبر ملوك كندة، من معاوية بن ربيعة والقحطاني وعبده بن بران.

4000

قبل أكثر من أربعة آلاف عام، أطلق الملك الآشوري سنحاريب اسم ريبو سلامو، أي باب السلام على مدينة الفاو في جنوب العراق، الواقعة على رأس الخليج العربي، أما أصل الاسم فاختلف الرواة حوله، لكن الفاو في اللغة تعني الأرض المنبسطة.

506

في هذا العام، قبل الميلاد، تأسست مملكة كندة العربية وعاصمتها ذي كهل أو كاهل، وهي الآن تسمى قرية الفاو في المملكة العربية السعودية، وسميت بالفاو نسبة إلى تلك القناة المائية الحلوة، ومجراها الذي يتقاطع بين وادي الدواسر مع جبال طويق في محافظة السليل.

1945

تأسست منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة، وسميت بالفاو، للقضاء على الجوع وتنمية الزراعة ومساعدة البلدان النامية. وترجمت إلى اللغة العربية: «أوجدوا خبزاً»، لكنها حروف لاتينية ومسمى أصله إنجليزي:

«food and agriculture».