ظلت مملكة الأنباط العربية، مستقلةً لقرون طويلة، حرة في قوانينها وحكم ملوكها، في حدودها التي امتدت من شمال جزيرة العرب إلى صحراء النقب وسيناء والأردن.. أما في يومنا فتتقاسم خمس دول جغرافيتها، هذه الدول، هي: السعودية وسوريا والأردن ومصر وفلسطين المحتلة.

نبايوت بن إسماعيل

سنة تأسيس دولة الأنباط الفعلية تبدأ منذ حوالي عام 400 ق.م وتنتهي باحتلال الإمبراطورية الرومانية لها عام 106 للميلاد، لتصبح ولاية من ولاياتها حتى انتهاء مُلكها المستقل.. وإن خضنا في بدايات دولة الأنباط فقد تأسست جغرافياً في بلاد العرب الحجرية، ونعني بها تلك المدن المحفورة في جبال تدعى مدائن الحِجْر أو مدائن صالح، والواقعة في شمال الحجاز.

وكما أتى في التوراة «سفر التكوين»، أن الأنباط من «نبايوت» وهو اسم الابن البكر للنبي إسماعيل بن إبراهيم الذي يُكنّى بـ «أبو العرب»، وكان لإسماعيل اثنا عشر ابنا، انتشروا فيما بعد في الأرض، والأنباط من سلالته.. فضلاً عن أن ثمة مصادر أخرى تورد أن أصولهم من هجرات شمال غرب جزيرة العرب، أو من بلاد الرافدين.

مدائن الحِجْر

تجاور الأنباط الأقوياء في مساكنهم التي نحتوها، فكان للنحات دور مهم في الحياة الاجتماعية، حتى غدت مهن الحفر والنحت والنقش من أبرز تراث بعض عائلاتهم.

وقد أسسوا دولتهم معتمدة على تجارتهم وطريق القوافل التي كانت تعبر مدائنهم «مدائن الحِجْر» وهي اليوم مدائن صالح، وانتشروا مع الزمن في مناطق أخرى عبر تجارتهم وإمكانياتهم المالية.. مثل: بادية الشام، حوران ودمشق، وجنوب شرق فلسطين وشبه جزيرة سيناء.. وغيرها.

لم يبعثرهم هذا الانتشار، بقدر ما امتدت بهم المسافات إلى مساحة أكثر اتساعا ليتغير المسمى من قبيلة الأنباط إلى مملكة الأنباط، متخذة من البتراء عاصمة لها، ولتصبح مدائن الحِجْر المدينة الثانية في أهميتها التجارية، وقد ازدادوا مع الوقت غنى، لموقعهم التجاري المهم الذي كانت تمر القوافل به، بمدنهم ومحطاتهم..

فأصبحت مدائن الحِجر من المحطات المالية المهمة، وكذلك البتراء والنقب وسيناء.. يمر هذا الطريق بين أهم المدن، فيربط بمحطاته العديدة بلاد اليمن بالحجاز ببلاد الشام ومصر وبلاد الرافدين. وهكذا باتت مملكة الأنباط أهم حواضر الصحراء.

الجبل الوردي

البترا عاصمة الأنباط التي بُترتْ من ذلك الجبل الوردي الواقع في غرب الطريق الصحراوي (جنوب المملكة الأردنية الهاشمية حالياً)، لتمنح واجهة الجبل شكل عمارة فاخرة منحوتة في وجه الصخر الجبلي، وتصبح عاصمة مملكة الأنباط منذ عام 312 ق.م والتي سيطرت على التجارة، وأمسكت بزمامها.

فقد أتى من انزاح منهم من مدائن الحجر في شمال الجزيرة العربية إلى البتراء بنحت الصخور كما كان في مدنهم الأصلية هناك، وخرجت واجهة مبنى البترا التي سميت الخزنة مؤخراً، كفن معماري نبطي بمزيج من الفن المعماري المصري، طبقا لما نرى في جدرانها السميكة وكفن هلنستي في أعمدتها.

امتدت البتراء مساحات كبيرة في بنائها، أبدع أهلوها في حفر قنوات جر المياه إلى القبور.. ومنازل في الجبال عبر شق ضيق وطويل في الصخر، فكانت أعجوبة لكل زائر، حتى أصبحت لها مكانة مرموقة تجاريا لِتَحكُمها في طريق يؤدي إلى أرض الحضارات الأخرى القريبة منها.

معبد عبداس

امتدت المملكة في حدودها وقوتها إلى صحراء النقب الواقعة الآن في فلسطين المحتلة، حيث أقيم معبدها الكبير «عبداس» نسبة إلى ملكها عبيدة الثاني، وما زال هذا المعبد قائما حتى اليوم في قرية عبدة العربية وسط مثلث النقب، حيث موقع المحتل الإسرائيلي.

ورغم أن المعبد ظل مزدهرا في العهدين النبطي والروماني، حتى أن الرومان أطلقوا عليه «أبودا» أي عبدة، لكن القرية تعرضت للتخريب عند احتلال الفرس لها.

إن تساءلنا عن باعث ذلك الإصرار الذي دعا أهل المملكة لنحت هذه الجبال ودوافعهم في ذلك، لتوصلنا إلى أنها لم تكن سوى فكرة تضمن بقاء سلالتهم ومملكتهم، فالجبال كما هي لا تتغير ولا تزاح، وما سينحت يبقى أبديا، تبقى الفكرة مثيرة للإعجاب، والحقيقة أنها بقيت كما اعتقدوا رغم ذهاب المملكة سياسيا وعقائديا.

كل هذا الاهتمام بالمعمار قصد إلى تشييد حضارة، برع أهلها في النحت وتسيير القوافل التي كانت تنقل الكثير من التوابل والعطور والبخور، مسيطرين على طرق التجارة من شواطئ عُمان واليمن مرورا بمكة المكرمة ومدائن الحجر والبتراء حيث العاصمة، حتى يتفرع الطريق إلى الشمال في دمشق وعبر النقب إلى سيناء في الغرب للتجارة مع أهل مصر.

ملوك ونقود

اتسعت التجارة ليُصك النقد في مملكة الأنباط في عهد الملك حارثة الثاني، وقد حمل النقد الذي صُكَّ في العام 118 ق.م صورته وصورة زوجته. ثم خَلّفَهُ الملك عبادة الأول.. ليمتد الزمن بمملكتهم ويأتي الحارث الرابع الذي حكم في العام التاسع للميلاد إلى غاية الـ 41 م، محافظا على استقلاله واستقرار بلاده.

أما الملك مالك الثاني، كما أطلق عليه باللاتينية مالكوس، فكان ضعيفا في حكمه بعد تاريخ أجداده المزدهر، إذ كان قد تعرض للضغط من قبل الرومان عبر قيامهم بقطع طريق التوابل والعطور من مملكة الأنباط إلى مصر، فاضطر للدخول في حرب ضدهم.. مما أضعف دولته، وقد توفي ودفن في البترا، في قصر من القصور يسمى قبر الجرة.

تلاه آخر ملوكهم المدعو «رب أيل الثاني»، المعروف لدى الرومان بـ«ريبول الثاني»، الذي انتقل بالعاصمة إلى بصرى نظرا لضعف المملكة وخسائرها، وبمساعدة من أخيه وأمه الملكة «شقلية» ابنة الحارث الرابع الحاكمة التي كانت تدير المملكة فعليا، بعد وفاة زوجها غير الشقيق الملك مالك الثاني كان ابنهما الملك رب إيل الثاني صغيرا.

فقامت أمه بتزويجه أخته «جميلة» التي نُقشت صورتها في النقود كملكة رسمية، لكنهم أهملوا مدائن الحجر (مدائن صالح) الواقعة حالياً في شمال المملكة العربية السعودية، فحدث التمرد بعد إهمالهم، لتستغل الإمبراطورة الرومانية ظروف الأنباط المفككة وتحتل مملكتهم.

«ذو الشرى»

عبد الأنباط في دينهم الوثني، آلهات عدة مثلهم مثل كل العرب، لكن تمثال الإله ذو الشرى وُجد في حوران جنوب سوريا، تلك البادية التابعة لمملكة الأنباط القديمة، معروضٌ الآن في متحف دمشق الوطني. ومن المفترض أن «ذو الشرى» آلهة امرأة، فالآلهات الأنثى هي الأساس في تلك العهود، رغم أننا نجد التمثال هنا على شكل رجل مسن بلحية، ليسميه البعض «ذو الشرى» وليس «ذي الشرى».

هذه الإله لها عند عرب الأنباط معابد عدة في أنحاء المملكة النبطية، كمعبدهم عبداس في صحراء النقب، وفي البتراء ومدائن صالح، وكل معبد من معابدهم له منارات مربعة الجدران.

والإله ذو الشرى العظيم، كما أطلق عليها البعض، تساوى في العصر الروماني الهلنستي مع إله الخمر اليوناني «ديونيسيوس».. كما تساوي في مرتبتها مع إله الطقس «زيوس» الذي هو «كبير الآلهة» بل وإله السماء.

فالإله ذو الشرى يسمى عند العرب سيدة الجبال والعواصف والرياح.. وقد استمد اسمه «الشرى» من جبال الأردن «الشراة»، وهي سلسلة من الجبال في محافظة معان الآن حيث البتراء بالمملكة الأردنية الهاشمية، إلى رأس النقب النبطية في فلسطين، ليبقى مسماه من موطنه دون اغتراب.

وإن دققنا في رسم الآلهات الأخرى في مدائن الحجر النبطية الكائنة في شمال الحجاز بالمملكة العربية السعودية والتي تسمى اليوم مدائن صالح، نجد أن أغلبها رسمت في داخل محاريب تشبه محاريب مساجد الإسلام، ووضعت فوق النصب بشكل بسيط التفاصيل.

حيث تبدو العين والأنف والفم مرسومة لا منحوتة، فالأنباط في بداياتهم لم يحبذوا تشبيه الآلهة بالبشر، لذا لم تنحت الآلهة هناك إلا بعد انضمام الانباط إلى الرومان لتصبح ولاية من ولايات الإمبراطورية الرومانية، فتتأثر مع الوقت بهيئات الآلهة لدى الرومان من حيث نحتها وحفرها.

لغة الأنباط

تحدث الأنباط باللغة النبطية التي انبثقت اللغة العربية منها، واللغة النبطية منبثقة بالأصل من اللغة الآرامية. وقد ظل ذلك واضحا في مفرداتها حتى وقت متأخر، اذ كانت الآرامية تستخدم في الرسميات، من رسائل الدولة الرسمية إلى آخره، حين لم تكن العربية مكتوبة بعد. لكن ما تم إيجاده على واجهات القبور الخاصة بالأنباط كان مكتوباً باللغة العربية وليس بالنبطية أو الآرامية.