فنون الرسم والنقش والنحت كانت موجودة دائماً في السودان منذ ما قبل التاريخ، ولا تزال معابد الممالك النوبية القديمة في شمال السودان تحمل آثار تلك الإبداعات، وقد استمر الحال حتى عهود الممالك المسيحية.

وفي العصر الحديث ارتبطت الفنون التشكيلية ارتباطاً وثيقاً بالتراث الوطني والبيئة المحلية والتطور الاجتماعي في السودان والتحولات العالمية في مجالات الفنون، هذه الخاصية جعلت أستاذ الفنون الجامايكي دينس وليامز - محاضر وناقد بكلية الفنون البريطانية - يطلق على الأعمال التشكيلية السودانية التي انتشرت في الخرطوم إبان الستينيات اسم «مدرسة الخرطوم التشكيلية».

ومن أبرز الفنانين المنسوبين الى هذه المدرسة: الأب الروحي للفن التشكيلي السوداني الحديث إبراهيم الصلحي، والبروفسور أحمد شبرين، وغيرهما. لم تكن لمدرسة الخرطوم في بداية سنواتها نزعة أسلوبية أو جمالية محددة بل كانت تشمل مختلف المدارس الفنية من انطباعية وسريالية وتجريدية وواقعية وغيرها، ولكنه رغم ذلك اتسقت وتميزت بجملة من الخصائص منحتها هذا الاسم.

في الشارقة

وتقديراً للإسهامات النوعية التي قدمها أقطاب هذه المدرسة في مجال التشكيل تستضيف مؤسسة الشارقة للفنون بالمباني الفنية في الشارقة هذه الأيام معرضاً استعادياً ينفض الغبار عن أمجاد عمرها زهاء الـ 70 عاماً، ويستمر حتى 12 يناير المقبل متضمناً نماذج تنتمي لهذه التجربة بينها أعمال إبراهيم الصلحي وأحمد محمد شبرين. وبهذه المناسبة نطل هنا على خصوصية تلك التجربة لنتقصى منابعها ونبرز معانيها واتجاهاتها وإضافاتها التكنيكية.

ينابيع واستلهامات

قبل تحديد السمات المميزة والجامعة لتجارب أولئك المبدعين، لابد من الإشارة إلى أن بداية بلورة منجزات مدرسة الخرطوم التشكيلية وتحقيق سماتها وإسهاماتها المعروفة قد سبقت بسنوات لحظة إطلاق هذا المصطلح عليها في الستينيات، حيث إن نشأة ملامح هذا التوجه الفكري الجمالي كانت خلال أربعينيات القرن العشرين الماضي وهنالك من يؤرخ لها بعام 1945 تحديداً كنقطة انطلاق، رغم أن مسيرة فناني تلك الظاهرة كانت قد سبقت ذلك بسنوات أخرى، ولكن إبان الأربعينيات برزت بقوة انشغالات وهموم مضمونية مشتركة فيما بين المبدعين آنئذ في ظل الظروف الموضوعية التي افترضتها فترة مقاومة الاستعمار البريطاني الذي امتدت حتى فجر الاستقلال في 1956م، وذلك في إطار سعيهم للبحث عن الهوية وتجليات الخصوصية الثقافية للمجتمع السوداني، الأمر الذي يؤكده بروز مدرسة إبداعية موازية في مجال الشعر ظلت تهجس بسؤال الهوية أيضاً فأطلقت على نفسها اسم «الغابة والصحراء» أو مدرسة «النخلة والأبنوس» خلال الستينيات ذاتها، وليس خافياً انطواء عنوانها على إشارة حاسمة نحو تمازج الثقافتين العربية، وترمز لها الصحراء أو النخلة، والأفريقية وترمز لها الغابة أو شجرة الأبنوس.

خصائص مدرسة الخرطوم

إن السمات المشتركة لفناني مدرسة الخرطوم هي: التشبث بوحدات من المرئيات مستلفة من التشكيل التقليدي في السودان، وهي وحدات يمكن تصنيفها ضمن الفنون التطبيقية التراثية، حيث تشمل أدوات شعبية، فولكلورية «تستخدم على سبيل الأدوات المعيشية في أزمان ماضية، كـ«البِرِش»، وهو بساط من سعف شجرة الدوم أو النخيل، وكذلك «الطبق» وهو غطاء للأطعمة في شكل قرص واسع مصنوع من السعف أيضاً مزخرف ومنسوج دوائر غنية بالألوان ومنداحة، وأيضاً «اللوح» المصنوع من الخشب ويستخدم في كتابة الآيات الكريمة بيد تلاميذ كتاتيب حفظ القرآن، و«الشرافة» التي هي تزويق وزخرفة تشكل إطاراً للنصوص التي تكتب في قلب اللوح، وهناك أيضاً الحروف العربية التي توظف داخل اللوحة لإغنائها بجماليات الخط العربي، والمباني القديمة للمدن المعرضة للاندثار.

خصوصية الصلحي

وأما أبرز فناني هذه المدرسة، إبراهيم الصلحي الذي غدا فناناً عالمياً تقتني أعماله كبريات متاحف الفنون في العالم.

ولد الصلحي بمدينة أم درمان عام1930م والتحق بمدرسة التصميم في كلية غردون الجامعية التي أنشأها الإنجليز في الخرطوم منذ بواكير القرن العشرين.

ثم بعث إلى بريطانيا لمواصلة دراسته في مدرسة سليد للفنون بجامعة لندن في الخمسينيات.

يقول الصلحي إن تدريبه الفني قد بدأ في الواقع وهو طفل في الثانية من عمره، حين كان في خلوة «مدرسة قرآن» والده شيخ الصلحي يحاول نسخ الكتابات وزخارف الشرافات على ألواح الكتابة.

الرجل لم ينقطع أبداً عن تعلّم التقنيات والأساليب الجديدة واستكشاف الرؤى الإبداعية المخالفة لكل ما عهد عنه في أوقات سابقة. كل هذا أهّله لأن يكون بين القلة من أبناء جيله ممن لا تزال ممارسة الرسم عندهم همّاً يومياً.

وأهمية الصلحي في مشهد التشكيل السوداني المعاصر إنما تتأتّى من طريقة الرجل الرائدة في مقاربة الممارسة الفنية بانتباه نوعي لبعدها الاجتماعي. وهو أمر لم ينتبه له جيل الرسامين السودانيين الذين سبقوا الصلحي، بل لم ينتبه له نفر كثير من جيل الصلحي نفسه.

وممارسة الرسم عند الصلحي لا تقتصر على البعد الجمالي وحده بل تتعداها نحو السعي الفكري لتأسيس إشكالية فلسفية حول دور الفنان في مجتمعه «المثقف العضوي».

يقول الصلحي إن أول معرض أقامه في الخرطوم بعد عودته من السليد سكول أوف آرت لم يجذب الجمهور السوداني لأن الأعمال المعروضة لم تكن تعبر عن الموروث التشكيلي للسودانيين. وقد ألهمه هذا الواقع البحث عن المكونات السودانية في تجربة السودانيين التشكيلية وذلك بغرض استخدامها لتأسيس أسلوب تشكيلي سوداني ومعاصر في آنٍ. وفي هذا المشهد، سعى الرجل من خلال بحثه لتعريف نوع من أبجدية بصرية تعكس مكونات الثقافة البصرية للسودانيين. وهكذا انطبعت أعمال الصلحي منذ عودته من بريطانيا بموتيفات تستلهم البعد الثقافي العربي «فن الخط» وأخرى تستلهم البعد الثقافي الأفريقي «زخارف المصنوعات الشعبية»، وهكذا بدأت ملامح وسمات مدرسة الخرطوم التشكيلية تتبلور على يده، ومن ثم انتقلت إلى من جايلوه.

ثراء شبرين

رديف الصلحي في تأسيس مدرسة الخرطوم التشكيلية ذات الصيت الواسع وسط مبدعي هذا المجال في كل مكان من العالم، رفيقه البروفسور شبرين.

يعتبر أحمد محمد شبرين أكثر رواد الحروفية السودانيين عطاء جاداً ومنضبطاً أمسك بعظم الحرف وإبراهيم الصلحي أدرك القيمة التشكيلية في الفراغات التي تصنعها الحروف بما أسماه لحم الحرف وشبرين والصلحي هما اللذان أسسا مدرسة الخرطوم في السودان وتبعهما عدد كبير من الفنانين في السودان. ومع تمكنه في خطه الذي ابتدعه مترسماً خطي الحرف الكوفي مشتقاً منه خطاً حراً عرف بـ«الخط الشبريني»، الذي يتخاطب بحرية كبيرة مع الفراغ. لقد استطاع الفنان شبرين أن يرسم شعراً ويقدم سيمفونيات خالدة تتسرب الى البصر والنفس عبر الكتلة واللون فتفتح عوالم موحية في غنائيتها التي تجمع بين الإيقاعات المتوازنة والدقيقة التي توفر الإحساس الحميم بالحياة.

شبرين يبحث في تكوينات اللوحة المعاصرة، عن الطيف العاطفي الذي يستعيد من خلاله السلالات الأخيرة للكتابات العربية كموروث شعبي غني بتقاسيمه وزخارفه ومتونه وهوامشه، الكتابة المليئة بالغرابة والدهشة والمناخات السحرية، حيث الخربشات المبهمة والدلالات اللونية، كأنها هي حدود اللوحة وخضابها وخضمّها.

رونق شبرين

ترتفع اللغة التصويرية الرمزية عند أحمد شبرين إلى ما يشبه الآثار الخطية والرسوم الحيوانية والنباتية التي تُحفر وتُرسم على جلود الحيوانات، تلك الجلود التي يصنع منها السودان أدواته وقلائده من حقائب وآلات موسيقية إيقاعية وأمتعة ذات أشكال مخروطية وأدوات مزينة بالأصداف والخرز والشراريب الطويلة.. وتتبدى تلك العناصر وكأنها تندمج في النص التشكيلي اندماجاً عضوياً، وكذلك اتحاد اللونين الترابي والأسود في طبيعة البداوة المتصحّرة والكحل الأسود الذي يعطيها ملامحها مع ألوان الغروب البرتقالية.