منذ أكثر من ستّة عقود قال سير أرنولد تالبوت ويلسون (Arnold Talbot Wilson) إنّه «ما من بحرٍ متداخل في اليابسة، كان ولا يزال موضع اهتمام كبيرٍ للجيولوجي، وعالم الآثار، والمؤرّخ، والجغرافيّ، والتاجر، ورجل الدولة، ولِدارس الاستراتيجيّة، أكثر من المياه الداخليّة التي تُعرَف بالخليج العربي».
وهي حقيقة تاريخيّة تكرّر حدوثها عبر العصور والأزمان، واختلفتْ مظاهرها ومعالمها عبر الحقب التاريخيّة المختلفة، وتباينتْ في ميادينها ومضامينها، ومنها تلك الرحلات التي يقوم بها الغربيّون بمختلف أعراقهم وأصولهم منذ العصور الغابرة إلى هذه المنطقة العامرة، أو يضمّنون أخباراً عنها في رحلاتهم تلقّوها إمّا عياناً وإمّا رواية، ولكنّهم جميعهم متّفقون على أهمّيّة هذه المنطقة عبر تاريخها الطويل، وإن اختلفتْ نظراتهم ورؤاهم عنها.
وفي هذه الحلقة نستعرض شخصيّة قديمة أشار العديد من المؤرّخين إلى غموضها وماهيّة عملها، وهل صاحبها تاجر، مجرّد تاجر، مغرم بالارتحال والإبحار، راغب في اكتشاف المجهول، محبّ لتسجيل السّلع والبضائع، وتحديد المرافئ والموانئ، وطبيعة عملها. أم هو جاسوس رومانيّ مجنّد من قِبل الإمبراطورية الرومانيّة للارتحال والتجوال في بلاد الشرق.
وقد عُرفتْ هذه الشخصيّة بــ«صاحب كتاب الطّواف حول البحر الإرتيري»، وقد لاقى هذا المصنَّف اهتماماً كبيراً من قِبل العلماء المهتمّين بدراسة السّياسة الرّومانيّة في الشّرق وفي الجنوب الشّرقيّ خاصّة أنّه كان للرّومان اهتمام كبير بالبحر الأحمر، وما وراءه.
مرشد
وكتاب الطّواف، كتاب بديع في فنّه من حيث كونه سجلّاً تجاريّاً وملاحيّاً دوّنها المصنِّف، وكأنّه يكتب تقريراً لجهةٍ ما. وكأنّ هذا الكتاب يقوم بدور المرشد الملاحي لروّاد سواحل البحر الأحمر وشرقيّ أفريقيا وشبه الجزيرة العربيّة وبلاد الهند.
وفي الوقت نفسه فهو يشبه الدّليل التّجاري لِمَا يمكن شراؤه وبيعه في المرافئ والأماكن المختلفة الواقعة على تلك السّواحل، مع أنّه في الأصل لا يتجاوز الخمس والعشرين صفحة إلا إنّها صفحات مهمّة.
ومن الملاحظ أنّ المؤلِّف يحرص على الإشارة إلى الواقع السّياسي للأماكن التي يوردها في الكتاب بمعنى أنّه يشير إلى الجهة السّياسيّة التي تتبعها الموانئ أو التي تخضع لها هذه الموانئ إضافة إلى العملات المُتَداوَلَة، وصفات النّاس وأوصافهم وكيفيّة تعاملهم مع الزّائرين. كما يركّز كثيراً على المراكز الدّاخليّة التي تمدّ المرافئ بالسّلع والمنتجات، إضافة إلى إشارات للطّرق والدّروب. مع أنّ أسلوب الكتابة لا يدلّ على ثقافة كبيرة كان يتمتّع بها المدوِّن.
وغالباً ما تشمل معلومات الكتاب الأخبار الاقتصاديّة، والأوضاع الاجتماعيّة، والظّروف السّياسيّة. وهذا الخلاف في شخصيّة المؤلِّف انسحب كذلك على تأريخه وزمنه، وتتراوح تحديدات العلماء لتأريخ كتاب الطّواف بين 30 وعلى أبعد تقدير عام 230 م. ولكن من المرجّح أن هذا المصنَّف قد كُتب في عهد الإمبراطوريّة الرّومانيّة، ومن المؤكّد أنّه وُضع قبل عام 106 م.
وهو العام الذي ضمّ فيه الرّومان مملكة الأنباط إلى سلطانهم المباشر في عهد الإمبراطور تراجان. وإن مال بعضهم على اعتبار القرن الأوّل الميلادي هو الزّمن الأرجح.
مصنَّفات
ويأتي كتاب الطّواف ضمن أوائل المصنَّفات التي خلّفها الرّواد الذين جابوا البحار في تلك الأزمنة، ويتميّز عن أولئك الرّحّالة من العرب والفينيقيّين واليونانييّن الأوائل، بما يحتويه من معلومات دقيقة وكأنّها سجلّ لملّاح لمّاح، بقي لمدّة طويلة من الزّمن السّجلّ الوحيد الذي يضمّ بين دفّتيْه معلومات ملاحيّة واقتصاديّة وجغرافيّة وبيئيّة، كما ضمّ معلومات قيّمة عن التّجارة العربيّة التي لم يدوّنها أحد قبله بل أنّ كتّاباً عظاماً مثل: استرابون وپليني وبطليموس، مع اتّساع معارفهم وعلومهم إلا أنّهم لم يتمكّنوا من مضاهاة ما دوّنه هذا الملّاح الكاتب المغمور من حيث الشّهرة والمكانة الاجتماعيّة والعلميّة مقارنة بأولئك الأعلام.
والمتتبّع لكتاب الطّواف يجد ملاحظات تقنية محدّدة تفيد في ميدان الملاحة والتّجارة على الرّغم من ضحالة المعرفة التّاريخيّة والأدبيّة للمصنِّف.
وكتاب التّاريخ الطّبيعي لپليني الذي يختلف مع كتاب الطّواف في أمور ويتّفق معه في أمور أخرى خاصّة فيما له علاقة ببلاد العرب والحبشة، ويرى بعضهم أنّ كتاب الطّواف يسبق عهد پليني مع أنّ الاختلاف بيّن في أوصاف كلّ واحد منهما لبلاد العرب، كما أنّ پليني لم يشر أبداً إلى كتاب الطّواف أو أنّه نقل عنه مع أنّه أشاد بيوبا (جوبا) ملك موريتانيا الذي نقل عنه كثيراً مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ پليني مجرّد ناسخ وناقل للمعلومات ليس هو مصدرها الأوّل إضافة إلى أنّه نقل أخباراً عن أوضاع بلاد العرب من ملّاحين ومسافرين ليس بالضّرورة منهم صاحب كتاب الطّواف.
أوضاع
وبما أنّ العلماء مختلفون في تحديد زمان مصنِّف الكتاب، إلا أنّ المصنِّف أورد عدداً من الأحداث التّاريخيّة، وأسماء الأعلام الذين من المفترض أنّهم كانوا معاصرين لزمان قيامه برحلته.
ومن الجدير بالإشارة إلى أنّ معلومات صاحب كتاب الطّواف عن الأوضاع الاقتصاديّة في منطقة الخليج العربي جاءتْ موجزة ومقتصرة فقط على ميناءيْن وهما أپولوچوس وعمانا دون إيراد أيّة معلومات أخرى عن غيرهما.
وهذا يثير تساؤلاً عن سبب هذا الاقتصار، ويبدو أنّ الملّاح لم يقم على الأقلّ بزيارة ميناء أپولوچوس نظراً للعداوة بين روما وپارثيا وبما أنّ صاحب كتاب الطّواف من رعايا روما فإنّ وجوده في ميناء يخضع للسّيادة الپارثية ربما يعدّ خطراً عليه أو ربما غير مسموح له بزيارة الميناء، وهذا يشير إلى فترة من الزّمن ربما بين عامَي 55 و62 حيث كانت العلاقة بين الجانبيْن مضطربة تخلّلتْها بعض الحروب والحملات العسكريّة وبالذّات الخلاف حول أرمينيا.
وهذا استهلك جزءاً من عصر الإمبراطور نيرون. ومن هنا حدّد بعضهم زمان تأليف الكتاب بعام 60 م.
ولغة الكتاب، ومع أنّه كُتب باليونانيّة إلا أنّه من الواضح أنّه لم يكن مثقّفاً بمعنى الثّقافة التي تتيح له حسن المنطق اللغوي أو الكتابة بالأسلوب الأدبي الأمثل وهذا ما يُرى من خلط بين المفردات اللاتينيّة واليونانيّة، وفي بعض الأحيان يخطئ في استخدام التّراكيب النّحويّة، وكان يستعمل لغة يونانيّة خاصّة بزمانه، ذات لكنة تُعرَف بــ«كويني» (koine) ولهذا فإنّ الكتاب ليس له قيمة أدبيّة كبيرة إلا أنّ قيمته العلميّة والفنّيّة والبيئيّة والجغرافيّة تجبر الخلل الموجود من هذه النّاحية.
واقع تجاري
ومما ذكر الكتاب أنه بعد مواصلة الإبحار بعد مدخل الخليج، وبعد رحلة ستّة أيامٍ، يوجد مركز تجاري آخر في بلاد الفرس، المنطقة المعروفة باسم عُمانا. (وهو موقع الدُّور في إمارة أمّ القيوين) وإلى هذه المدينة القريبة يتمّ إرسال من باريجازا، (المعروف حاليّاً باسم بهروش أو بروج (Bharoch) من كلّ من هذين المركزين التجاريين في بلاد الفرس، سفنٌ كبيرةٌ محمّلةٌ بالنّحاس، وأخشاب الصّندل والسّاج، وكتل الخشب الأسود، (وهي شجرة تنبتُ في بلاد الهند) والأبنوس.
كذلك فإنَّه يتمّ إحضار البخور إلى عمانا من قانا، ومن عمانا إلى بلاد العرب تستخدم القوارب المحلّيّة المخيطة المعروفة باسم 'ماداراتا'(Madarate)، (ربما تكون هذه الكلمة محرّفة من «مدرّعة») ويُصدَّر مِن هذين المركزين إلى باريجازا وإلى بلاد العرب كمّيّات كبيرةٌ من اللؤلؤ، إضافة إلى الصّبغة الأرجوانيّة والملابس المحلّيّة والخمور (الراجح أنّها خمور التمور) والتّمور بكمّيّات كبيرةٍ أيضاً إضافة إلى الذّهب والعبيد. وتشير هذه المنتجات إلى واقع تجاريّ نشط كان يعمّ منطقة الخليج العربي.
ترجمات
يتّضح من استعراض مادّة كتاب «الطواف» أنّ لصاحبه اهتماماً بالتّاريخ، ولهذا يشير أحياناً لعدد من المسائل والأحداث التّاريخيّة، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية ثلاث مرات عام 1912 و1982، و1989، والترجمة الأخيرة هي الأفضل.
مغاصات اللؤلؤ
كتاب الطواف ذكر معلومات عديدة عن الخليج العربي، ومما جاء فيه: «نأتي بعد ذلك إلى مدخل الخليج العربي، حيث يتمّ غالبية الغوصِ لأجل محار اللؤلؤ. وإلى اليسار من هذا المدخل، توجدُ سلسلةٌ جبليّةٌ كبيرةٌ جدّاً تُعرفُ باسم أسابون "Asabon"، وهي جبال شبه جزيرة مسندم وإلى اليمين منها في الجانب المقابل توجدُ سلسلةٌ جبليّةٌ أخرى واضحةٌ مرتفعة ومستديرة تُعرفُ باسم سميراميس (Semiramis)، (وهي الضّفّة الأخرى المقابلة لجبال مسندم في الجزء الفارسي لمضيق هرمز)، والمسافةُ بينهما هي المدخل إلى الخليج. وفيما وراءه يمتدّ أكبر الخلجان وأعرضها، الخليج العربيّ، لمسافةٍ كبيرةٍ في الدّاخل.
جغرافية ومعلومات
الجغرافيّ الشّهير بطليموس لا يتفوّق على صاحب كتاب الطّواف مهما كانت أهمّيّة جغرافيّة بطليموس إلا أنّ صاحب كتاب الطّواف دوّن كثيراً من معلوماته من خلال مشاهداته الشّخصيّة، وأمّا بطليموس فقد كان عالِماً، اعتمدتْ معرفته كثيراً على الوثائق والمصادر إضافة إلى مرويّات بعض الملّاحين والتّجّار، وهو في الواقع لم يقم بزيارة إلى تلك المناطق والأقاليم التي دوّنها وسجّل عنها معلوماته. ومن الجدير بالإشارة إليه أنّ جنوب شبه الجزيرة العربيّة نال جزءاً كبيراً من الاهتمام من صاحب كتاب الطّواف لِمَا لها من أهمّيّة اقتصاديّة.