تنقل الترجمة ثقافات الشعوب وحضاراتها لنشاهد على الورق وبين طيات الكتب مجموعة من القصص المختلفة والرؤى والمعارف الجديدة المنوعة، التي تغير من ثقافتنا وتوجهاتنا المعرفية ليصبح التوجه إلى مناطق أكثر معرفة وثراء فكرياً، سعياً لنتاج ثقافي وأدبي مختلف عما هو متعارف عليه في مجتمعاتنا العربية.
وتبرز أهمية الترجمة في التعرف على الآخرين من جهة والتعريف بثقافتنا وأعمالنا الأدبية والتراثية من جهة أخرى، لننقل مجموعة من القصص الشعبية والحضارة العربية للدول الأجنبية لتقليص المسافات المعرفية بين الشعوب، وتعزيز الفكر الإنساني والترويج لثقافتنا من خلال الترجمة، وهناك الكثير من الجهود تقوم بها المؤسسات الحكومية والخاصة لانتهاج وتبني المعرفة، ولا تزال هناك بعض العوائق التي تواجه دور النشر والمترجمين لازدهار وتفعيل دور الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى والعكس.
حس أدبي«البيان» التقت مجموعة من أصحاب دور النشر المهتمة بالترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، خلال مشاركتها في معرض الشارقة الدولي للكتاب أخيراً، التي يتواجد بعضها أثناء المعرض فقط.
تقول أردنية الأصل منى هنينغ صاحبة «دار المنى للنشر والتوزيع» من السويد والتي تعيش هناك منذ 49 سنة، وقامت بالعديد من الترجمات من إصدارات الدول الاسكندنافية إلى اللغة العربية لتنقل لنا ثقافة مختلفة: أؤمن بأن المترجم لا بد من أن يملك الحس الأدبي والإبداع في الترجمة، حيث إنه يرفع من مستوى الكتاب الأصلي، وقد يكون هناك كتاب وأدباء كبار لم يجدوا الترويج المناسب لإصداراتهم لضعف الترجمة، فالقارئ يبحث عن المضمون والقراءة بشكل سلس حتى تصل فكرة الكتاب، وهناك قراءات متعددة للرواية تجعل البعض قد يرى مواضيع لم يرها الآخرون خلال الترجمة.
وعن مدى الإقبال حالياً على الكتب المترجمة قالت: تختلف مبيعات الدار لدينا بعدد العناوين الجديدة التي نطرحها ونحرص على اقتناء العناوين التي تناسب ذائقة القراء من كل ثقافة، وقد تنجح بعض الكتب في السويد والنرويج ولكن ليس كل كتاب ينجح قد يصادفه نفس النجاح في دولة أخرى، لا بد من معرفة الأسواق، إضافة إلى أنه لابد من مُحالفة الحظ ليضرب الكتاب ويحقق مبيعات عالية، وتساهم الدول الأوروبية في ترجمة كتبها إلى لغات أخرى فانتشار ثقافة دولة معينة يساعد على التعرف عليها، مثل كتب «هينينغ مانكل» للمفتش كورت فالندر والتي ظهرت على شكل حلقات تلفزيونية في ألمانيا وبريطانيا لتصبح هناك بما يسمى سياحة هينينغ مانكل، حيث أصبحوا يزورون الأماكن لمشاهدة أحداث القصة في الواقع مثل مكتب التحريات وبيت المفتش ومكان وقوع الجريمة.
حرية وإنسانية
كما أكدت هنينغ أن الثقافة تصنع الإنسان وتعطي نوعاً من الحرية وجرعة من الإنسانية، حيث يستدعي لبناء الإنسان معالجة روحه ومشاعره وتفكيره من خلال الأدب وهي أكبر معالج للأمراض النفسية، ونحتاج للتعرف على أساليب جديدة في مجال الترجمة، إضافة إلى تطوير اللغة العربية واستخدام مفرداتها لنحيي اللغة وننفتح على المواهب، ولا بد من الاستفادة من الغرب في عملية بناء ثقافتهم.
وأضافت: من خلال عملي بالترجمة بالسويد لاحظت أن كتاب الفتيان خلال 100 سنة أصبح أعلى مستوى أدبي في العالم، وهي الدولة التي كانت في القرن السابع عشر والثامن عشر لا تملك أدباً محلياً والأغلب كان مترجماً.
وأكد رمزي بن رحومة، مدير النشر في دار «مسكيلياني للنشر والتوزيع» من تونس، أهمية تواجد عنصر اللغة الأصل والثقافة التي نترجم منها، ويقول: نحن نترجم عن أكثر من 10 لغات، وأول من ترجم للكاتب البرازيلي «خورخي أمادو» عن طريق لغة وسيطة وهي البرتغالية، بعدها ترجمنا 4 أعمال للكاتب البرتغالي «أفنسو كروش»، ولو ما ترجمنا من اللغة البرتغالية للكاتب أمادو لما فتحنا على اللغة البرتغالية واكتشفنا ما فيها، لذلك هناك أعمال جيدة تجعلك تفتح نافذة على أدب معين.
اكتشاف الثقافات
وبحديثه عن الإقبال على القراءة للكتب المترجمة قال ابن رحومة: القارئ لا يهتم من أي لغة أو أدب يقرأ، فهو يقرأ الذي يحبه، فالأدب يختلف باختلاف الثقافات مثلاً، والترجمة تجعلك تكتشف ثقافات مختلفة فعندما ترجمنا رواية تتحدث عن التبت اكتشفنا أشياء مغايرة لثقافتنا، كما تعرفنا على اختلاف الأدب الإفريقي فهناك استعارات طويلة والجمل الأصلية قصيرة وهي عكس ثقافتنا التي توجز وتعزز مفهوم البلاغة والبيان، والترجمة الجيدة هي التي تأخذ بعين الاعتبار مسألتين متوازيتين، الأولى أن يكون النص والثقافة الأصلية تحتفظ بوهجها، والثانية النص العربي يكون سليماً في بنيته ودلالته.
وعن مميزات المترجم الناجح قال: لا بد من أن يكون ضليعاً بالثقافة التي ينقل منها حتى لا تكون ترجمة حرفية، فمثلاً على ذلك هناك في اللغة الفرنسية عندما يشبهون إمرأة بالقمر لا يعني أنها جميلة وهو العكس تماماً، فالقمر عند الفرنسيين هو رمز للبرود والكآبة، ولكن في ثقافتنا تفهم أنها المرأة الجميلة لذلك العنصر الأول هو الوعي بتلك الثقافة، أما العنصر الثاني فهو شساعة المعجم اللغوي الذي يعرفه في تلك اللغة، والعنصر الثالث هو مدى تمكنه من اللغة العربية والمعجم العربي.
ويواصل: هناك إقبال عالٍ جداً على الكتب المترجمة لأننا ظللنا سنوات نترجم بالمعنى وغالباً ما كان الروّاد يقرؤون النص ويأخذون الفكرة ثم يصيغونها في نص عربي جميل ويبتعدون عن الأصل، الآن أصبح مفهوم الترجمة أكثر انضباطاً وصرامة ما جعل القارئ في هذه الفترة يقبل على الكتب المترجمة، وتتميز الكتب الأجنبية عن العربية في اختلاف النظرة الثقافية والواقع المعيشي ولكن الأدب هو نفسه، وإذا نظرنا للجوائز العالمية والتي يحوزها كاتب من بنما أو من ثقافة التبت، لذلك ليس هناك مقياس وسطوة دول على دول من حيث النضج الأدبي ويمكن أن نكون في أفقر دول العالم ونكتب أدباً جميلاً على عكس السينما فهي تحتاج صناعة، أما صناعة الكتاب فتحتاج نضجاً ذهنياً ووعياً وقلماً وورقة وهي أسهل الأمور إبداعاً ولكن أعقدها من حيث مواكبة الترجمة.
تحديات الناشر
وفي السياق نفسه، أشارت عبير عقل من «دار عقل للنشر والتوزيع» من سوريا، إلى كيفية تعامل دار النشر مع مهنة الترجمة، فهناك تحديات أمام الناشر مع هذه المهنة مثل التحدي المهني ويشمل القدرة على الحصول على حقوق الملكية الفكرية للكتب الأجنبية لترجمتها إلى اللغة العربية، إضافة إلى التحدي الفني ويشمل القدرة على التعامل مع مترجمين أكفاء لتكون الترجمة دقيقة وواضحة من دون تحريف، كما أن هناك العامل المادي ودعم المشروع ككل وهو من شراء الحقوق إلى أداء حقوق المترجم ثم طباعة الكتاب، فالترجمة بشكل عام تعاني من الكثير من التحديات التي تقف أمام الناشر.
وبالنسبة لسياسة الدار الخاصة في وضعية الترجمة هي أن تحترم الدار حقوق الملكية الفكرية فلا تترجم إلا بإذن الناشر أو المؤلف الأصلي، وتترجم الدار فقط من اللغة الأصلية إلى اللغة العربية ولا تترجم من لغة وسيطة، فالترجمة من لغة وسيطة قد تؤدي إلى أخطاء في إيصال الرسالة والهدف من الكتاب، كما يراعى أثناء الترجمة ليس معرفة المترجم باللغة فقط يجب أن يكون هناك مراعاة لموضوع البحث ومدى معرفة المترجم باللغة والموضوع، ومن أهم تحديات الترجمة المادة، والمترجم هو كاتب آخر للكتاب وهو لا يقل أهمية ولا بد من أخذ حقوقه الأدبية والمادية.
مراجعة النص
ويؤكد حسن ياغي من «دار تنوير للنشر والتوزيع» والحائزة جائزة «زايد للكتاب فرع النشر والتقنيات الثقافية»، أن هناك قراء يطلبون كتباً معينة وهو دليل على الوعي والمعرفة بما يقرأون، وقال: نحن نقدم بدار تنوير الروايات والفلسفة والكتب العلمية الموجهة للجمهور، ونترجم من الكوري والياباني والإسباني والكثير من اللغات الأجنبية، وقد حققنا مؤخراً أكثر الكتب مبيعاً وهو الكتاب المترجم «فن اللامبالاة» الذي يسعى الكثير لمعرفة فن وثقافة جديدة من خلاله.
ويتابع: البعض لا يهتم بالقيمة الأدبية للكتاب ويهتم بالموضوع أكثر، فالقيمة الإبداعية تتطلب من المترجم التعبير عنها بطريقة تنسجم مع اللغة التي ينقل إليها حتى يبقى الإبداع والإحساس موجوداً، وهناك بعض المشاكل التي تواجه ازدهار الترجمة وهي تدريس الترجمة في الجامعات على أساس أنها لغة وليس معنى وإبداعاً وأبعاداً ثقافية، إضافة إلى تدني أجر المترجم وهي أحد الأسباب الرئيسة لعدم انتعاش وازدهار الترجمة، وعدم التفرغ للمترجمين فالكثير لديه وظيفته الأساسية والترجمة لديه شيء ثانوي، كما أن هناك البعض منهم يتدرب في الجمهور وبالجانب الآخر فالناشر لديه عملية تحرير وقراءة ومراجعة للنص، فالترجمة هي أن تنقل من لغة إلى لغة أخرى وهي أن تجعل هذا حاضراً في قلب هذه اللغة.
توحيد الجهود
ومن واقع خبرتها وضحت الكاتبة والمترجمة الإماراتية نهى مطر خميس التحديات التي تواجه المترجمين، فقالت: المترجمون بحاجة لتوحيد جهودهم وربطهم ببعض بواسطة شبكة وصل وقاعدة بيانات تشمل مؤسسات الترجمة والمترجمين ودور النشر
معاً، كما أنهم بحاجة لعمل سلم وظيفي يتم فيه أخذ الاعتبار بالشهادات والخبرات فالمترجم يتعين بمسمى مترجم ويصل لسن التقاعد وهو ما زال على نفس المسمى، كما يواجه المترجم منافسة البرامج الإلكترونية، حيث تستطيع ترجمة صفحات أكثر في وقت أقل وتحتاج لتدخل بشري بسيط لتصل للإتقان، وهو تحد كبير ينبه المترجم إلى إمكانية الاستغناء عن خدماته في العقد القادم، وحالياً أستخدم أحد هذه البرامج وهي مفيدة وتوفر الوقت والجهد، وتظل بحاجة للتدخل البشري.
تحرير وتدقيق
وتتابع: عندما أتصفح أي كتاب مترجم أقوم تلقائياً بتقييمه، فالكتاب المترجم يجب أن يمر بمراحل أهمها الترجمة، ثم تحرير المحتوى، ثم التدقيق اللغوي ثم مراحل النشر الأخرى وأستطيع أن أجزم إذا كانت دار النشر قد اختصرت مرحلة الترجمة والتحرير والتدقيق في شخص واحد فقط هو المترجم، فتضع على عاتقه هذه المسؤوليات بهدف تقليص التكلفة ما يؤدي لتدني مستوى الجودة، نحن بحاجة لوضع سياسة موحدة لترجمة الكتب تتضمن مراحل ترجمة الكتاب وتلتزمها الجهات المعنية وأؤكد أنني أعني هنا مراحل ترجمة الكتاب.
ومن واقع تجربتها تقول: أكملت 10 أعوام في مهنة الترجمة عملت فيها في جهات حكومية وترجمت في مجالات عدّة وبما أنني اخترت عنوان رسالة الماجستير التي قدمتها «ترجمة اللهجة الإماراتية في النص المسرحي الإماراتي»، لذلك عندي شغف بترجمة الأدب الشعبي ومن منبر «البيان» أدعو الجهات المعنية إلى تبني هذا الاقتراح وهو اختيار أسماء لأدباء ومثقفين إماراتيين من الماضي والحاضر وتجميع عدد من أعمالهم الأدبية التراثية أو المعاصرة ثم الإعداد لمشروع ترجمة الأدب الإماراتي.