في مئوية الراحل الكبير المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، مؤسس دولة الإمارات وباني نهضتها، لابد من التوقف ملياً عند مآثره وأفضاله على الإمارات وشعبها العربي الأبي، والتبصر أيضاً في مواقفه الوطنية والإنسانية إزاء قضايا أمتيه العربية والإسلامية ومساهماته المشهودة في المحافل الدولية.

غير أن حديثنا هنا سيقتصر على ما كان لسموه من رؤى حصيفة وسجايا فطرية ملهمة صبت في قالب توفير الحياة الكريمة لبني وطنه من جهة، وصبت في قالب تطوير مدينة أبوظبي التي تحولت خلال فترة وجيزة من مكان صحراوي قاحل إلى مدينة عصرية تتلألأ بكل مقومات الحياة العصرية، بل راحت فوق ذلك تسابق مدن الكون في عمرانها وبنيتها التحتية ومرافقها الخدمية ومنتزهاتها وخضرتها وجسورها وشوارعها الفسيحة المستقيمة وميادينها مع المحافظة على طابعها العربي الخاص.

وإذا كان الراحل الكبير هو مَن وضع التصورات الأولية للشكل الذي أراده لعاصمة بلاده، فإن مَن حوّل تلك التصورات والإرشادات مِن مجرد خطوط عريضة وأشكال هندسية صمّاء إلى واقع متحرك وحياة مفعمة بالأمل ومرتكزات للمزيد من الإضافات والتحسينات على مر الأيام والسنين، هو مهندس معماري مصري نال ثقة القائد المؤسس وارتبط به بعلاقة عمل وود، فلم تنسه الإمارات وتمّ تكريمه من قبل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بمنحه وسام أبوظبي عام 2010، تقديراً لخدماته المتميزة.

ابن المفتي

هذا المهندس، الذي قد لا يعرفه الكثيرون من أبناء الجيل الجديد في الإمارات والخليج، هو د. عبدالرحمن حسنين مخلوف، ابن مفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ حسنين مخلوف (توفي عام 1990)، وحفيد الشيخ محمد حسنين مخلوف، عضو هيئة كبار العلماء المصرية منذ تأسيسها عام 1911، وأحد كبار مشايخ الأزهر. فما قصته يا ترى؟ وكيف أتى إلى الإمارات؟ وما طبيعة إسهاماته في تخطيط عاصمة الدولة والمدن المجاورة لها حتى غدت بالصورة التي عليها اليوم؟

طبقاً لما رواه بنفسه لصحيفة الاتحاد (27-2-2010)، وما ورد في مذكراته التي أصدرها في كتاب تحت عنوان «رحلة العمر مع العمران.. نصف قرن مع تخطيط المدن»، منشورات المكتب العربي للتخطيط والعمارة، أبوظبي والعين 2016، وما قاله في حوار مع صحيفة الإمارات اليوم (29-1-2014)، فإنه وُلد في القاهرة عام 1924 ابناً لعائلة مُتديّنة، تمتد جذورها إلى قرية بني عدي التابعة لمركز منفلوط بمحافظة أسيوط، وترعرع في بيت مكتنز بأمهات الكتب، ما ساعده على الإطلاع مبكراً على أعمال وكتابات الرواد من أمثال الزيّات، وأحمد أمين، والعقّاد، وطه حسين، وآخرين.

أراده والده العالم الفقيه الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي المالكي أن يكون مثله ومثل جده، أي من رجالات الأزهر الشريف المرموقين، لكن ابن القرية الصعيدية لم يرضَ بحياة القرية المهمشة واختطَّ لنفسه، بمساعدة أشقائه المتعلمين الأكبر سناً، درباً مختلفاً تماماً. ذلك أنه منذ صغره بدا مولعاً برسم الأشكال الهندسية والتصاميم العمرانية للمباني، ناهيك عن شغفه بتصاميم المساجد، لا سيما المسجد النبوي بالمدينة المنورة والمسجد الحرام بمكة المكرمة.

البداية

وهكذا، ما إن أتم دراسته الأولية في المدارس النظامية المصرية وتخرج في المرحلة الثانوية بنجاح، حتى أعدّ العدّة للالتحاق بقسم العمارة بكلية الهندسة التابعة لجامعة «فؤاد الأول» (جامعة القاهرة حالياً)، ليتخرج فيها عام 1950، ويعيّن مُعيداً بها عام 1951.

مشواره التالي بدأ بالسفر إلى ألمانيا للدراسة في جامعة «ميونيخ»، التي حصل منها على درجة الدكتوراه في العمارة عام 1957، بعد عودته من ألمانيا تم تعيينه مدرساً بجامعة القاهرة، وبعد فترة من العمل الأكاديمي انتدب للعمل في هيئة الأمم المتحدة خبيراً في تخطيط المدن.

في الأثناء، كانت السعودية تبحث عن معماري مسلم لتخطيط بعض مدنها، فوقع الاختيار عليه عام 1959 ليقوم بهذه المهمة، فتحقق له بذلك حلم ظل يراوده طويلاً، وهو المشاركة في تخطيط الأراضي المقدسة.

فبقي في السعودية أكثر من 4 أعوام (1959ــ1963) وصفها بأنها كانت بمثابة «عبادة متصلة»، وقام خلالها بإنشاء جهاز تخطيط المدن، وإنجاز العديد من مشروعات التخطيط العمراني لمدن مثل جدة، ومكة، والمدينة، وينبع، وجازان.

وبين عامي 1966 و1967، انتدب للعمل مديراً عاماً لإدارة التخطيط العمراني للقاهرة الكبرى (تشمل محافظات: القاهرة والجيزة والقليوبية)، فأنشأ الهيكل التنظيمي للجهاز التخطيطي والتنفيذي، وأشرف على إعداد التخطيط العمراني لكل من منطقة شُبرا الخيمة الصناعية، والمنطقة الحرّة ببورسعيد، وساهم في التخطيط لبناء مدن جديدة مثل العبور والعريش الجديدة وغيرهما، واقترح إنشاء الطريق الدائري حول القاهرة الكبرى.

أما في عام 1968، وحينما كان الشيخ زايد طيب الله ثراه، حاكماً لإمارة أبوظبي قبل تأسيس الدولة الاتحادية وتوليه رئاستها، طلب من هيئة الأمم المتحدة إرسال خبير في تخطيط المدن إلى أبوظبي كي يساعد بخبرته على إعداد المخطط العام الحديث للمدينة، فتم ترشيح مخلوف لهذه المهمة، لتبدأ مرحلة مضيئة من حياة الرجل، أثبت فيها مجدداً كفاءته المعمارية الخارقة، وارتبط من خلالها بالإمارات ارتباطاً وجدانياً.

لحظة الوصول

يتذكر مخلوف لحظة وصوله إلى أبوظبي وظروف لقائه الأول بالراحل الكبير فيقول، طبقاً لما ذكره في حديث لصحيفة الخليج (2-2-2012): «عند وصولي إلى أبوظبي استقبلني المرحوم سعيد الدرمكي، مدير التشريفات، وأخذني إلى الشيخ زايد، رحمه الله، وكما يقولون إن الإنسان يضع تصوره عن أي شخص من أول نظرة وأول موقف يجمع بينه وبين الأشخاص، وأنا بمجرد وقوع نظري في نظر الشيخ زايد، رحمه الله، ومصافحته، استقبلني ذلك الاستقبال الحار وأكرمني كل ذلك الكرم الذي تجلى في الحفاوة المبالغ فيها في الاستقبال، وعرفت أنه يستقبل ضيوفه كلهم بهذه الحفاوة والكرم النابع من طبيعته الأصيلة دون تفريق بين أحد منهم لمنصبه أو مكانته الاجتماعية».

واستطرد مخلوف متحدثاً عن صفات ومزايا الوالد المؤسس، فقال: «من خلال عشرتي معه، التي امتدت أكثر من 30 عاماً، وقفت على جوانب كثيرة من شخصيته التي كوّنتها من خلال انطباعاتي الشخصية.

من الأمور التي أدركتها وشهدتها شخصياً، وتلك التي سمعتها من غيري ممن احتك به ولو لمرة واحدة وكوّن فكرة عن هذا الرجل العظيم، كان رحمه الله في محياه القوة والمهابة، وهذه الصفات يدركها كل من يلتقي به للوهلة الأولى، سواء أكان رجلاً عادياً أم أي شخصية لها مكانتها، سواء أكان رئيس دولة أم صاحب منصب رفيع أم ممثلاً أو سفيراً لدولة من الدول الكبرى أو الصغرى.

كان رحمه الله يشع بالجاذبية والبشاشة، وترى هذه الصفة لا تفارقه وهو في أكثر حالات التعب والإرهاق الذي يسببه كثرة حراكه وتنقله بين المشاريع والوقوف على أمور الإمارة والدولة والقضايا المحلية والإقليمية والعالمية، فقد كان رغم تلك المشاغل العظيمة بشوشاً مبتسماً يلقي عليك الأنس والراحة والسكينة، وكان ملء لمحاته العزم والشجاعة.

وهذه الصفة أدركها الجميع بمجرد النظر إليه أو نظره إليهم، فقد كان رحمه الله شجاعاً في اتخاذ قراراته، ولعل التاريخ سجّل له العديد من المواقف التي وقف فيها بكل عزم وشجاعة على كافة الصعد، وهذه الوقفات التاريخية لا تعد ولا تحصى، وكان في خطاه الإقدام والجسارة، فلم نجده يوماً تراجع أو جبن عن اتخاذ وتنفيذ أي أمر.. فرحمة الله عليه».

اللقاء الأول

وعن لقائه الأول بالراحل الكبير، كتب مخلوف أيضاً نصاً في كتاب مذكراته قال فيه: «عندما سلمت عليه بادرني بالقول والبشاشة تعلو وجهه: «إيش ناوي تسوي.. تعطي لنا خرائط وتقول يجب تنفيذها.. أم ستقوم برسم ما نبغاه يا دكتور؟».

فقلت لسموه: «يا صاحب السمو لكل خارطة بدائل كثيرة.. فاختاروا منها ما يناسبكم وما نتفق عليه»، فسُرَّ رحمه الله لهذا الرد، وأصدر مرسوماً أميرياً بتعييني مديراً لتخطيط المدن في إمارة أبوظبي، وكلفني بتأسيس دوائر تخطيط المدن في أبوظبي والعين وإعداد المشروعات التفصيلية والتنفيذية لمدن الإمارة والإشراف على تنفيذها، وذلك خلال الفترة من 1968-1976».

وفي مايو 1972، أسس مخلوف المكتب العربي للتخطيط والعمارة الذي أنجز من خلاله العديد من المشروعات التخطيطية في الإمارات، كما أنه انتدب أستاذاً محاضر في كلية الهندسة بجامعة الإمارات في العامين الدراسيين 1983-1984، و1984-1985.

ولهذا كله، يمكن القول إن مخلوف كان شاهداً من شهود العصر على تحديث مدينتي أبوظبي والعين وتحويلهما من مدن صحراوية إلى حواضر، بتوجيه وإرشاد من الوالد المؤسس، والذي أرادها مدناً تجارية تواكب العصر وفق أحدث الخطط العمرانية.

ووفقاً لهذه الرؤى السديدة، قام مخلوف بإعداد دراسة علمية محكمة بعد أن تعرف إلى معالم أبوظبي وتاريخها وتكوينها الثقافي والاجتماعي في الخمسينيات والستينيات حينما كانت صغيرة الحجم، محدودة السكان، متواضعة الاحتياجات والإمكانيات، ولا تتجاوز أدوار مبانيها الدور الواحد، ولا تتسع طرقاتها لمرور سيارة واحدة، وسط ظروف طبيعية ومناخية قاسية.

كانت توجيهات القائد المؤسس آنذاك تستهدف توفير حياة كريمة للإنسان، وتشكيل مكان أمثل لمعيشته وحياته واستقراره من النواحي الاجتماعية والاقتصادية مع المحافظة على أصالة المكان وقيم الزمان المتوارثة، فلا مواقع ذات قيمة أثرية تزال، ولا أشجار أو نخيل تقطع، وإنما يتم التجديد والمحافظة والصيانة بأساليب علمية مبتكرة.

دعم وثقة

وهكذا، وبدعم وثقة غير محدودين من قبل الشيخ زايد، شمّر مخلوف عن ساعده وراح يضع التصاميم والهياكل التخطيطية لتعمير وتحديث أبوظبي، مستثمراً في ذلك كل ما تعلمه وراكمه من خبرات وتجارب.

في هذا السياق، يخبرنا المستشار الإعلامي المصري شعيب عبدالفتاح في مقال ضمن سلسلة مقالاته عن «أبناء مصر في الخارج»، ما مفاده أن أول ما فكر فيه مخلوف عند تخطيطه لمدينة أبوظبي كان خلق مساحات شاسعة من الحدائق العامة كي تكون بمثابة عنصر تجميل للمدينة وعنصر ترويح للمواطن والوافد.

ثم راح يهيئ مواقع لمختلف الخدمات والمرافق التي تستجد الحاجة لها مستقبلاً، مع الحرص على زيادة المسافات الفاصلة بين المباني المتقابلة، وهو ما أتاح مرونة فائقة لجهة تصميم شبكات الطرق الرئيسة والميادين التي تتوسّطها، وتشييد الجسور والجزر الفاصلة بين اتجاهات الطرق.

كما حرص مخلوف على حفر قناة حول جزيرة أبوظبي لتسيير الملاحة حولها، وقام بتعميق المياه الضحلة لتخفيف نسبة الرطوبة، واستخدم نتائج الحفر في كسب أراضٍ عمرانية في جزيرة أبوظبي، ما أضفى عليها طابعاً جمالياً مميزاً إلى درجة أنها اختيرت عام 2005 واحدة من بين أجمل المدن العربية، إن لم يكن أجملها على الإطلاق.

عزم

ومما لا شك فيه أن الرجل واجه تحديات جسيمة ومعوقات كثيرة في عمله، خصوصاً أن مهمته كانت في حقبة الستينيات، حيث المعلومات شحيحة وأدوات العمل بدائية والتكنولوجيا بعيدة مقارنة بما توافر في العقود التالية. غير أن الإرادة والعزيمة انتصرت على كل التحديات.

وفي هذا السياق، قال مخلوف لصحيفة «الاتحاد» (5-9-2018): «إلى جانب مسؤوليات القائد (يقصد الراحل الكبير) السياسية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، كانت استجابته لتلك التحديات ببذل الجهود الدائبة عبر سنوات متتالية، لم يمض منها يوم دون مباشرته إدارة المهام العمرانية بمختلف جوانبها كالتوجيه والمراجعة والمتابعة الميدانية والحسم والبتّ وتسهيل الصعاب وتذليل العقبات والمضي بحزم وعزيمة نحو الهدف دون تراجع، وصولاً إلى ما نراه اليوم في أرجاء البلاد من نهضة عمرانية شاملة».

وأضاف مخلوف أن الكثير من المشروعات العمرانية والخدمية التي ألح عليها الشيخ زايد في مخطط مدينة أبوظبي، بدت لبعض المسؤولين آنذاك ضرباً من الخيال وبعيدة المنال أو مستحيلة التحقيق.

ولعل أفضل دلائل الانسجام والاندماج بين القائد زايد والمهندس مخلوف تجلى في صورة فوتوغرافية متداولة يظهر فيها الرجلان جالسين على الأرض في تواضع، وأمامهما رسم تخطيطي مجسم لمدينة أبوظبي، حيث يبدو مخلوف وهو يشرح بتعمق تفاصيل المخطط، بينما يستمع الشيخ زايد باهتمام واضح.

1964

عاد د. عبدالرحمن حسنين مخلوف في هذا العام إلى القاهرة، وفي العام التالي لعودته تم تعيينه أستاذاً في قسم تخطيط المدن في جامعة القاهرة، زمن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وخلال هذه الفترة من حياته عكف على إعداد بحث علمي عن أوضاع ومستقبل مدينة القاهرة والجيزة كإقليم عمراني متكامل، كما وضع مخططاً لهما واقترح إنشاء المدن الصحراوية على طريق السويس والفيوم.

دلالات

ذكر د. عبدالرحمن حسنين مخلوف في مذكراته، ما جرى عند لقائه بالشيخ زايد طيب الله ثراه عام 1974، حيث كان موضوع اللقاء تسمية الشوارع الرئيسة في أبوظبي، فيقول: «اختار الراحل الكبير الأسماء المعروفة الآن في المدينة، وهي في مجملها ذات دلالات حكيمة؛ الوفاء للأجداد من آل نهيان، وتأكيد الإحساس بالمدى الجغرافي للمدينة، شوارع مهمة بأسماء أماكن جغرافية: دلما، بني ياس، البطين.

ومن المعاني الدالة على أهدافه لأبناء وطنه اختياره اسماً فريداً لأحد أهم شوارع أبوظبي «شارع السعادة»، وهذا يذكرني بما قاله أرسطو عن المدينة المثالية، أن تكون بجانب تأدية وظيفتها الأساسية (توفير المأوى والحماية لسكانها)، مصدراً لسعادة الإنسان».