مثّل المرحوم الشيخ محمد الحمد الشبيلي بلاده في مواقع مختلفة، فقد كان قنصلاً وسفيراً ومستشاراً ووكيلاً لوزارة الخارجية، وكان شامة بين دبلوماسيي المملكة العربية السعودية في خلقه الرفيع، ونزاهته، وتواضعه، وكرمه وإحسانه، ونموذجاً للرجل المؤمن بدينه والمتمسك بالمبادئ الإنسانية.
وعنه قال الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله: «لو كان بإمكاننا رد القدر عنه لقدمنا كل ما نملك»، ووصفه الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، بـ«ركن من أركان الدولة، حازها بيمينه وجهده»، ومدحه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، بقوله: «إنه من المروءة والمكارم وحبه للدولة وحرصه على الواجب وخدمة المواطن في درجة لا يـُبارى ولا يـُجارى»، وأثنى على مناقبه وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل، بقوله: «مثـّـل بلاده خير تمثيل وجاء أداؤه قمة في الأصالة والتميز، وأتمنى على الجيل الجديد من دبلوماسيينا أن ينهلوا من سيرته».
وُلد الشيخ محمد الحمد الشبيلي، المعروف عند العموم بكنيته «أبو سليمان»، عام 1910، بمدينة عنيزة في إقليم القصيم بوسط نجد، ابناً بكراً لوالده الشيخ حمد محمد الناصر السليمان العبدالله الشبيلي، المنحدر من عائلة الشبيلي المعروفة بتجارتها وأملاكها وأسفارها، والتي تنتمي إلى العناقر من ثرمداء من بني سعد من تميم. أما لقب الشبيلي فمعناه في اللهجة النجدية الدارجة «لجام الخيل» طبقاً لما ذكره الإعلامي السعودي د. عبدالرحمن الصالح الشبيلي، في كتابه «أبوسليمان» الصادر عام 1994، عن مكتبة «العبيكان»، والذي نستند إليه في اقتباس واستعراض سيرة الرجل مرجعاً رئيساً.
مبادئ
والدته هي منيرة السليمان الشبيلي (ابنة عم والده)، توفيت بعد أيام قليلة من ميلاده، فتكفلت برعايته خالاته الثلاث: نورة وحصة وموضي (الأخيرة تزوجها والده لاحقاً). وطبقاً لأخيه عبدالله الحمد الشبيلي، فإن أبو سليمان عاش طفولة هادئة، كان خلالها محاطاً برعاية والده وخالاته وأقاربه، خصوصاً أنه كان طفلاً وسيم المظهر ويتصف بخفة الدم ودماثة الخلق.
التحق أبو سليمان، كغيره من أطفال زمنه، بالكتاتيب التقليدية لتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وقواعد اللغة وأمور الدين، وتتلمذ على يد الشيخين عبدالرحمن القرزعي، وصالح بن دامغ، كما صحب والده إلى حلقات الدرس التي كان يديرها آنذاك الشيخان عثمان الصالح القاضي وعبدالرحمن الناصر السعدي.
وهكذا نشأ نشأة قويمة في بيئة عنيزة الأكثر انفتاحاً من غيرها ضمن حدود نجد، الأمر الذي أكسبه خصال الانفتاح على الآخر والقدرة على التماهي لاحقاً بسهولة مع مظاهر الحياة في المجتمعات التي انتفل إليها.
ولأن والده كان يتردد على مدينتي البصرة والزبير العراقيتين لأغراض التجارة وتفقد أملاكه هناك التي كونها جديه لأبيه وأمه، ذهب أبو سليمان إلى العراق وعاش في البصرة والزبير فترة طويلة، حضر خلالها المجالس، واستمع لما يدور فيها من نقاشات، وتعرف على ضيوفها من وجهاء السعودية والكويت والعراق، وهو ما أثر على تكوينه الشخصي لجهة الإلمام بآداب المجالس والنقاش وسمات الكرم والخلق الرفيع وكيفية البذل والعطاء في سبل الخير.
كانت رحلة الشيخ محمد الحمد الشبيلي الأولى إلى البصرة، في سن العاشرة تقريباً، بصحبة والده وابن عمه محمد عبدالرحمن الشبيلي، المتقارب معه في العمر، والذي التحق بمدرسة «النجاة» الشهيرة في الزبير، في حين أن أبي سليمان التحق بمدرسة «الرجاء العالي» التي كانت تـُسمى «مدرسة الأمريكان»، وكانت تحتوي عل المرحلتين المتوسطة والثانوية.
تزوج أبو سليمان عام 1933 من زوجته الوحيدة «موضي بنت إبراهيم السليمان»، والتي أنجبت له ولده الوحيد سليمان، قبل أنْ تتوفى بعد ولادته بفترة قصيرة، فقضى صاحبنا بقية حياته عازباً عفيفاً، يرفض كل محاولات أقاربه للاقتران بسيدة أخرى. ولأبي سليمان 5 إخوة هم: عبدالله وعبدالرحمن وسليمان، وأختان.
جامعة
المنعطف الأول الأبرز في حياة أبي سليمان كان في 1930، أثناء مروره بالرياض مع والده في طريقهما من البصرة إلى عنيزة، حيث صدر أمر من الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، بتعيينه في وظيفة كتابية بالديوان الملكي، الذي كان وقتها بمثابة الجامعة التي تخرج الدبلوماسيين والمستشارين والمبعوثين وأمراء المناطق في بدايات تأسيس الدولة السعودية الثالثة، فتعلم أبو سليمان من عمله الكثير من شؤون الدولة السياسية والإدارية والاجتماعية قبل تأسيس الأجهزة الوزارية المختلفة.
كما اكتسب من عمله في الديوان خبرات متميزة حول أمور البادية ومعرفة القبائل وأفخاذها وأنسابها، ناهيك عن الأمور الخاصة بعلاقات المملكة مع الدول المجاورة.
يشير السجل الوظيفي لأبي سليمان أنه بعد 12 عاماً من العمل بالديوان الملكي، صدر قرار بنقله إلى البصرة لشغل وظيفة نائب للقنصل السعودي فيها آنذاك فخري شيخ الأرض، حيث افتتحت السعودية هناك قنصلية كبيرة لرعاية شؤون مواطنيها في جنوب العراق. وحينما نقل فخري شيخ الأرض إلى وظيفة أخرى، حل أبو سليمان مكانه قنصلاً عاماً في يناير 1949.
وفي يونيو عام 1957 نقل إلى ديوان وزارة الخارجية بجدة في وظيفة مستشار، علماً بأنه خلال الفترة من 1949 إلى 1957 انتدب كثيراً إلى بغداد للعمل قائماً للأعمال أثناء تمتع سفراء المملكة بالعراق بإجازاتهم السنوية، خاصة في زمن السفير عبدالله الخيال.
كما صدر في يونيو 1957 صدر أمر ملكي بنقله من البصرة إلى ديوان وزارة الخارجية بوظيفة مستشار، وسرعان ما انتـُدب في سبتمبر 1957 إلى جدة للعمل وكيلاً لوزارة الخارجية التي كان يحمل حقيبتها آنذاك ولي العهد الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وبعدها بشهرين تمت ترقيته إلى وظيفة وزير مفوض من الدرجة الأولى، وعـُين في الوقت نفسه سفيراً لدى جمهورية باكستان، بموجب أمر ملكي صدر بتاريخ 14 نوفمبر 1957، ثم نقل إلى نيودلهي سفيراً لبلاده لدى الهند بتاريخ 29 مايو 1964 حيث بقي هناك نحو 3 سنوات، ليعود بعدها إلى البلد الذي درس فيه وعرف أهله عن كثب وهو العراق، شاغلاً فيه نصب السفير بدءاً من 1967 وحتى 1971.
وفي 1972 عين سفيراً للمملكة لدى أفغانستان التي عمل بها نحو 6 سنوات انتهت باستدعائه، قبل أن يُحال إلى التقاعد بموجب نظام الخدمة المدنية، غير أن الحكومة السعودية لم تجد بداً من الاستعانة بخبرته الدبلوماسية الطويلة ومناقبه المتميزة وعلاقاته المتشعبة، فتعاقدت معه ليمثلها سفيراً لدى الاتحاد الماليزي لمدة 10 سنوات بدءاً من 1978 وحتى 1988 وهي السنة التي انتقل فيها إلى جوار ربه بعد مشوار دام نحو 60 عاماً متواصلاً.
تجدر الإشارة إلى أن الرجل اختير، أثناء خدمته الدبلوماسية في باكستان، لتسلم حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية في الحكومة، التي شكلها ولي العهد الأمير فيصل بن عبدالعزيز في مارس 1962 خلال عهد الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود، ولكنه اعتذر عن قبول التوزير، والتمس من ولاة الأمر أن يبقى في عمله الدبلوماسي، فكان له ذلك، حيث اختير بدلاً منه الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل. وهو ما يذكرنا بحادثة مشابهه وقعت في 1955 عندما تم ترشيحه للعمل رئيساً للمراسم الملكية، ورئيساً لديوان ولي العهد، فاعتذر مفضلاً مواصلة عمله الدبلوماسي في العراق.
صداقات
خلال عمله في كل الأقطار آنفة الذكر، حرص أبو سليمان على أن يجوب أراضيها سائحاً ومكتشفاً ومتلمساً حاجات الناس وعاقداً الصداقات مع الوجهاء والمسؤولين، فقد كان محباً للأسفار والتجوال وعاشقاً للتعرف على ثقافات الشعوب وعاداتها وأحوالها. وبذلك ترك الرجل أينما حل ذكريات لا تـُنسى وعلامات بارزة سجلها تاريخه الناصع في البذل والعطاء والإحسان.
وفي سيرة أبي سليمان حوادث كثيرة كادت أن تقضي عليه لولا عناية الله ورعايته، فعلى سبيل المثال تعرض لحادث سيارة مُروّع في مصيف بحمدون اللبناني عام 1956 تسبب في حدوث ارتجاج في مخه وكسور في كتفه وأضلاعه، وظل فاقداً للوعي لنحو أسبوعين، وعندما أفاق تنازل عن حقه الخاص والتمس من السلطات اللبنانية أن تتنازل عن حقها العام رأفة بالمتسبب في الحادث.
وفي 1953 أخبره أحد أطباء القلب أن لديه متاعب في القلب وأنه لن يعيش طويلاً، فسارع بالسفر للعلاج في الولايات المتحدة، فأثبتت الفحوصات التي أجراها هناك خلو قلبه من أي متاعب، فعاش سليماً طيلة السنوات العشرين التالية.
وقبيل استلامه عمله الدبلوماسي في أفغانستان في 1972 كان في رحلة برية في منطقة النعيرية فأصيب بلدغة ثعبان تسببت له في مضاعفات خطيرة، فبقي ملتزماً سريره لمدة طويلة في الكويت بمنزل قريبه الشيخ عبدالرحمن المنصور الزامل. وفي مطلع 1973 تعرض لحادث سقوط في حمام منزله في كابول فتسبب الحادث في إصابته بكدمات ورضوض وكسور تعالج منها لمدة طويلة في المستشفيات البريطانية، أجريت له خلالها أكثر من عملية جراحية.
وفور عودته من رحلة علاجه إلى كابول تعرض لنوبتين قلبيتين أخفاهما عن ذويه مثل الحوادث السابقة، حتى لا يقلقهم، وخلال رحلة سياحية في اليابان تعرض لكسر في يده على إثر سقوطه بسبب الثلج فتحمل الآلام الناجمة عن الحادث طويلاً دون مراجعة الأطباء. وفي ليلة الوفاة المفاجئة للملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود عام 1982، تعرض لحادث سيارة في منطقة الروضة شرقي الرياض، حيث كان في زيارة للمملكة، وقد تسبب الحادث في إصابته برضوض وكسر في أحد الأضلاع، ورغم آلامه أصر على المشاركة في جنازة الملك ومراسم تشييعه.
وعندما كان في ماليزيا عام 1987 زادت معاناته من ارتفاع ضغط الدم، تلك المعاناة التي بدأت معه مذ كان سفيراً في بغداد، خصوصاً أنه كان كثير المجاملة لضيوفه وزواره، وشديد الحرص على تلبية الدعوات وحضور المناسبات الرسمية بكل ما يتخللها من مآدب وبروتوكولات مرهقة، ما تسبب في زيادة وزنه وتفاقم متاعبه الصحية، وصولاً إلى إصابته بجلطة أثناء أحد الاستقبالات الرسمية.
وكعادته لم يكترث بالأمر وآثر مواصلة خدمة بلده على العودة إلى الرياض للعلاج، إلى أن أقنعه ولده سليمان بضرورة تلقي العلاج في المستشفى العسكري بالرياض، وبقي فيه فترة طويلة تخللها علاج في ألمانيا والنمسا على نفقة الدولة، ثم واصل العلاج في مستشفى الحرس الوطني السعودي بالرياض تحت إشراف طبي رفيع إلى أن فارق الحياة عام 1988. حظي أبو سليمان طوال سنوات خدمته برعاية الملك عبدالعزيز ومن بعده أنجاله الكرام من ملوك وأمراء.
كما ارتبط معهم بعلاقات ود ومحبة واحترام ووفاء، وكذلك مع سائر قادة الدول التي عمل بها وساستها ووزرائها وأعيانها، وهو ما تجلى في حصوله على العديد من الأوسمة والنياشين وشهادات التكريم، تقديراً لجهوده في خدمة وطنه دبلوماسياً، كما تجلى في إطلاق اسمه على أحد شوارع منطقة الروابي الواقعة شرق الرياض وإطلاق اسمه على أحد شوارع مسقط رأسه في عنيزة.
بر وإحسان
عـُرف الراحل بكرمه الحاتمي، رغم أنه لم يستفد قط مادياً من وجوده في الخارج لممارسة تجارة أو عقد صفقة مدرة للأموال، بل كان ينفق على أوجه البر والإحسان من مخصصاته الشخصية والرسمية، أو مما كان يُحول إليه من أموال من قبل معارفه الراغبين في الإحسان من أمثال الشيخ محمد المنصور الزامل في عنيزة، وعبدالله إبراهيم السبيعي، وعبدالله الحمد القبلان، وعبدالرحمن المنصور الزامل، وصالح العبدلي في الكويت، ومحمد المرشد الزغيبي في القاهرة، وعبدالرحمن العثمان في جدة، ومحمد العريفي في بيروت، وأحمد القاضي في الهند، وحسن العطّاس في سنغافورة، وعبدالعزيز الديحان في الفلبين.
سجايا وخصال
الذين عرفوه أو عملوا معه عن كثب تطرقوا إلى الكثير من سجاياه وخصاله ومواهبه. فقد عـُرف بأنه كان قريباً من الجميع بغض النظر عن مراكزهم ووظائفهم يخدمهم بإخلاص ويزيل العقبات من أمامهم كلما وجد إلى ذلك سبيلاً.
كما عـُرف بطول البال وعدم التقيد بالوقت عند استقبال الناس وعند زياراتهم إلا إذا كان مرتبطاً بمواعيد مسبقة. كان ينام قليلاً ويعمل طويلاً، ويتحدث مع الآخرين بهدوء فلا يرفع صوته وينصت باهتمام ولا تفارق الابتسامة محياه.
وكان في ملبسه ومأكله وحياته أنيقاً صاحب ذوق رفيع، عاشقاً للأطايب والبخور، مفضلاً السفر بالسيارة على الطائرة، علاوة على كل هذا، كان من المتحدثين والرواة المقتدرين على صياغة الرواية والحديث وإخراجه بأسلوب مميز يميل إلى السلاسة في العرض مع قوة التعبير دون انقطاع أو تلعثم، لأن ذاكرته كانت قوية ومختزنة بالكثير من القصص والحكايات والمواقف.
1982
كان الشيخ محمد الحمد الشبيلي ظاهرة إنسانية فريدة، وسحابة معطاءة تبعث على الطمأنينة والصفاء والمحبة والوفاء، بل كان كتاباً مفتوحاً في بساطة وتواضع نادرين، فضلاً عن كونه دبلوماسياً ناجحاً، جمع الكفاءة والخلق الرفيع والخبرات المتراكمة.
وقد كتب الشاعر البحريني الراحل عبدالرحمن رفيع عام 1982 قصيدة بعنوان «تحية للكريم الغائب»، عندما زار كوالالمبور ولم يكن أبوسليمان بها، ومنها:
بدون أبي سليمان تــراءت «كوالا» الحسن ناقصة الجمـال
وكنا قبل قد زرنا «كـــوالا» فكانت كالمضيء من اللالآلـي
فلما أنْ مضى منها الشبيلي غدتْ قفرا حزين اللون خـــــال
لسوف تردد الركبان عنـــه أحاديثا قربن من الخيـــــــــــال