تقول المصادر المتوافرة إن أول مذيعة عملت في إذاعة البحرين اللاسلكية التي أنشئت سنة 1955 في عهد المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، كانت أمينة حسن، وأنّ أول مذيعة كويتية هي أمل جعفر، وأول مذيعة إماراتية هي حصة العسيلي من الشارقة التي انضمت إلى إذاعة «صوت الساحل» سنة 1965.
أما أول صوت نسائي سعودي انطلق عبر الأثير فهو صوت ابنة مكة المكرمة أسماء زعزوع الشهيرة بـ«ماما أسماء»، والتي عملت بدايةً مذيعة ربط في أواخر الخمسينيات في إذاعة عموم الهند بتشجيع من زوجها عزيز ضياء الذي كان وقتها يعمل معها في تلك الإذاعة ذات الجمهور العريض، والتي كانت آنذاك من أقوى الإذاعات الموجهة للعالم العربي. وبعد عودتها إلى وطنها مع زوجها سنة 1951 التزمت منزلها.
وتخبرنا حنان بنت عبدالعزيز آل سيف في صحيفة الجزيرة السعودية (3/6/2007) أن الذي أعادها إلى المايكرفون في عام 1963 هو وزير الإعلام السعودي الأسبق جميل بن إبراهيم الحجيلان بمباركة من الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز، حيث طلب الحجيلان منها ومن فتاتين سعوديتين أخريين هما؛ شقيقته نجدية إبراهيم الحجيلان والدكتورة فاتن أمين شاكر، الانضمام إلى الإذاعة بعد أن كانت الإذاعة السعودية حتى تاريخه مقتصرة على الأصوات الذكورية.
حكاية
مثلما كان للحجيلان فضل على توظيف السعوديات الثلاث في الإعلام الرسمي المسموع، فإن وزير إعلام سعودي آخر هو الدكتور محمد عبده يماني الذي شغل منصبه في الفترة من 1975 إلى 1983 كان له فضل في انطلاق مذيعة سعودية أخرى هي السيدة هدى الرشيد، لكن تلك حكاية أخرى يجب أنْ تـُروى بتفاصيلها؛ لأن صاحبتها دخلتْ التاريخ كأول صوت نسائي عربي يخترق كل حدود الأثير من إحدى أشهر إذاعات العالم، وهي هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، ليصل إلى أبعد مكان في البر والبحر.
ليس هذا فحسب وإنما قدّمتْ الرشيد من خلال عملها مع البي بي سي صورة مشرقة للمذيعة العربية المتميزة بالرصانة المهنية والشخصية القوية والعمل الدؤوب والحنجرة الدافئة المبللة بندى صحراء الجزيرة العربية، ما أكسبها احتراماً وتقديراً عميقين على مدى 30 عاماً عاشتها في أروقة «بي بي سي»، زاملت خلالها ثلة من أشهر نجوم الإعلام المسموع مثل منير شما ومديحة المدفعي ومحمود المسلمي.
وقرأتْ أثناءها أهم النشرات الإخبارية التي غيـّرت مصائر أمم وشعوب، وتعاملتْ مع أبرز أحداث وصراعات الشرق الأوسط والعالم، وحاورت كبار القادة والسياسيين، وقدمت برامج في الثقافة والمنوعات واللقاءات الخاصة.
والحقيقة أنّ الطريق لم يكن مفروشاً بالورود أمامها. فقد تعرضتْ للكثير من المعوقات في مجتمع كان يقاوم قديماً عمل المرأة، ويعتبر صوتها عورة، فما بالك بسفرها إلى الخارج للعمل جنباً إلى جنب مع الرجال.
لكن الرشيد قبلت التحدي وقاومت ونجحت في إثبات أن حريتها في الاختيار ليست انفلاتاً وإنما مسؤولية، كما نجحت في أنْ تكون في الوقت نفسه محافظة على رصانتها ووقارها وسمعتها، ومتمسكة بعزة نفس متناهية، دون مظاهر أو أضواء أو استعراض.
ميلاد ونشأة
طبقاً لما ورد في صحيفة المدينة (20/12/2014) وفي المجلة العربية (20/12/2014)، ولدت هدى عبدالمحسن الرشيد في القاهرة لأم سعودية من أشراف آل غالب، ولأب هو الشيخ عبدالمحسن الصالح الرشيد، الذي اشتهر بتولّيه بلدية الرياض عام 1950 قبل نقله إلى وزارة المواصلات لتولي ملف إعادة تشغيل الخط الحديدي الحجازي (الذي كان يربط إسطنبول بالمدينة المنورة عبر سوريا والأردن).
فأقام آخر حياته بالشام. ولديها من الإخوان صالح وفيصل وسليمان ومحمد وعادل وفهد ونايف، ومن الأخوات: ليلى وهيام وروعة. تنتمي أسرتها إلى عبدالله بن رشيد، من قبيلة سبيع، والذي تولى إمارة منطقة عنيزة بالقصيم لفترتين إبان الدولة السعودية الأولى.
نشأتْ في عنيزة، وأرسلتْ إلى مدرسة داخلية في بيروت في السادسة من عمرها، وحصلتْ على الثانوية من الإسكندرية، وعلى بكالوريوس التاريخ من جامعة بكنغهام البريطانية سنة 1992، وعلى درجة الماجستير في الإعلام من جامعة لندن سنة 1993، وألحقتها بشهادة ماجستير أخرى في اللغويات والترجمة سنة 1995 من مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية، التابعة لجامعة لندن. لم تكتفِ الرشيد بكل هذه الدرجات العلمية، فشراهتها العلمية دفعتها لاحقاً لإعداد رسالة دكتوراه في مجال الإعلام.
انطلاقة وصعوبات
بدايتها المهنية تمثلت في ظهورها كأول فتاة سعودية على شاشة تلفزيون الرياض لتقديم نشرة الأخبار بالعربية، صيف عام 1974. وفي مطلع السبعينيات عملت كإعلامية متعاونة مع إذاعة جدة فالتقت هناك كبار نجوم الإذاعة السعودية في عصرها الذهبي، من أمثال بدر كريـّم وطاهر زمخشري وعلي البعداني وعبدالرحمن يغمور.. وغيرهم.
كما شاركت في الفترة 1971 ــ 1974 في كتابة مقالات بصحيفة بجريدة عكاظ. بعدها رحلت إلى بريطانيا للعمل في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية ولمواصلة تحصيلها الجامعي.
عن ظروف عشقها للإذاعة، ومن ثمّ رحيلها إلى بريطانيا سنة 1974، قالت الرشيد في حوار مع صحيفة الاقتصادية (28/1/2012 ): «حبي للإذاعة بدأ في سن مبكرة جداً، فمنذ أن كنت صغيرة وأنا أعشق الإذاعة وما يبث فيها لدرجة أنني حفظت معظم البرامج الإذاعية ومواعيد بثها وأغانيها، وكان أهلي إذا أرادوا معرفة موعد بث برنامج معين يسألونني، فقد أطلقوا عليَّ اسم (هدى إذاعة)، وكانوا يقولون اسألوها تعرف كل شيء عن الإذاعة».
بمرور الوقت ازداد تعلقها بالإذاعة حتى جاء يوم أفصحت فيه أمام أهلها عن رغبتها بالعمل في الإذاعة، ليأتي الرد بالرفض الشديد من قبل والدها الذي قال لها بالحرف الواحد: «لا ترددي مثل هذا الكلام مرة أخرى، لن تكوني مذيعة ما دمتُ حياً».
تقول المجلة العربية (مصدر سابق) في هذا السياق بتصرف: «ذهبتْ هدى لتقيم في جدة إلى جوار أخيها الكابتن طيار فيصل الرشيد، وكان بالمصادفة يسكن في عمارة وإلى جوارهم المذيع علي البعداني، فقدمتْ له بعض ما كتبته وأبدتْ رغبتها في العمل الإذاعي، وكانت تنشر شيئاً مما تكتبه في جريدة «عكاظ»، وعندما قرأها البعداني ولمس حرصها ورغبتها الصادقة، حدد لها موعداً للحضور لاختبارها بالإذاعة فرافقها أخوها، وذلك في عام 1971، فقابلها كبير المذيعين وقتها الأستاذ بدر كريـّم، بحضور أخيها والمذيعين عبدالرحمن يغمور وعلي البعداني، فأعجبوا بنتيجة المقابلة وبدأت تذيع وتشارك في الكثير من البرامج الثقافية والاجتماعية ومن أهمها برنامج «القول والعمل»، وهو شبه إخباري مع عبدالرحمن يغمور، ثم كان للشاعر الكبير طاهر زمخشري دور كبير في احتضان موهبتها وتشجيعها. إذ كان يقدم برامج الأطفال إلى جانب برامج ثقافية أخرى باسم «بابا طاهر»، فأصبحت تقدم برنامجه الشعري إلى جانب مشاركتها في إذاعة وإعداد البرامج الأخرى.
وعندما علم والدها أنها مذيعة بالإذاعة أبدى عدم تشجيعه، وقال لها بالحرف: «ستفشلين»، فتحدّت الظروف والصعوبات ووضعت أمامها قاعدة شكسبير «أكون أو لا أكون»، وبلغ طموحها أنْ ذهبتْ إلى لندن لدورة في اللغة الإنجليزية (لمدة 10 أسابيع) وما زال يصاحبها الإحساس بالفشل، وخلال دراستها تعرفتْ إلى زوجة المذيع منير شما، فطلبت منها زيارة مقر الإذاعة البريطانية، فهيأ لها ذلك، وامتدت الزيارة لمدة أسبوع في الإدارة والاستديوهات وقسم الأخبار وغيرها، وعرفوا أنها ذات خبرة إعلامية في إذاعة جدة، فطلبوا منها تعبئة «استمارة عمل» فقالت لهم: «أنا لا يهمني هذا الموضوع لأنني مسافرة هذا الأسبوع إلى جدة»، فقالوا لها بإصرار: «ليس هناك مشكلة تستطيعين إجراء التجربة الصوتية والإعداد الكتابي للمواد الإذاعية في القنصلية البريطانية في جدة»، فقامت بملء المعلومات المطلوبة في الاستمارة.
وبعد فترة لم تطل، اتصلت السفارة البريطانية بمنزل أخيها فيصل لتبلغها بقبولها مذيعة وعليها الحضور إلى لندن، ولا بد من موافقة والدها، فبدأت مع أخيها، وبعد محاولات إقناع وافق، شريطة موافقة والدهم، فسافرت إلى دمشق لعرض الموضوع على الوالد المقيم هناك؛ كونه العقبة الكبرى في هذه القضية.. فقالت له بكل شجاعة وثقة: «أبي أنا لدي فرصة عمل إعلامي في لندن وأخي في جدة ليس لديه مانع إذا وافقت أنت شخصياً»، وفوراً وافق قائلاً لها: «إذا كان أخوك لا يمانع فأنا أيضاً لا أمانع»، وأردف قائلاً: «كم ستبقين في لندن؟ قالت له عاماً واحداً»، وهي غير صادقة، إذ إن العقد مدته ثلاث سنوات. عادت إلى جدة واستعدت للسفر إلى لندن وكان الموضوع أشبه بالحلم.
هذا الأب هو نفسه الذي صار فيما بعد يفخر بابنته ويقدمها لمعارفه قائلاً: «ابنتي هدى.. مذيعة البي بي سي»، وهو نفسه الذي كان لا يزحزح مؤشر مذياعه عن تلك المحطة كي يسمع صوت ابنته طوال اليوم، طبقاً لما نشرته صحيفة Arab News السعودية (8/3/2018).
حلم تحقق
في لندن، التي أحبتها وانجذبت إليها وكونت معها علاقة ألفة متبادلة إلى درجة أن زملاءها كانوا يرددون «هنا هدى» كلما نطقت هي عبارة «هنا لندن»، مرت الرشيد بفترة تدريب مكثفة وقاسية، فكانت كلما ارتكبت خطأ بسيطاً في الإلقاء واجهت التوبيخ الشديد الذي كانت تضطر معه إلى الانزواء والبكاء.
وفي هذا السياق نقل عنها قولها (طالع عدد صحيفة الرياض الصادر في 13/7/2006): «مررت بالكثير من الأيام الحزينة خصوصاً في السنوات الأولى بسبب الاغتراب بهذا العمر المبكر، والدقة التي تتميز بها المحطة، والتي يصبح فيها الخطأ في التشكيل مشكلة كبيرة.
سنتي الأولى في لندن كانت قاتلة لا يمكن تحملها. في العمل كنتُ أذهب إلى دورة المياه وأبكي، لأنني أخطأت في نطق اسم زميلي. ولكن كل هذه الأشياء اختفت. أصبحتْ الغربة جزءاً من شخصيتي، وفي الإذاعة أصبحتُ الشخصية الصارمة في العمل. العمل كان بمثابة الملجأ من الغربة. طموحي للعمل في البي بي سي ربما كان هو الذي يخفف عليّ».
بحث عن الهدوء
بعد رحلة طويلة من العمل والسهر خلف المايكرفون ومكاتب التحرير والإعداد امتدت لأكثر من ثلاثة عقود قدمت الرشيد استقالتها من «بي بي سي» في عام 1998.
وقد عللت ما أقدمت عليه بقولها إن الأجواء الإدارية لم تعد تعجبها، وإنها تبحث عن الهدوء والسكينة كي تكمل أطروحتها للدكتوراه، مضيفة أنها حققت كل ما كانت تطمح إليه وأن تجربتها مع المحطة البريطانية كانت تجربة رائعة جداً وتعتز بها كثيراً، وأنها استمتعت في بداياتها بالسكن مع عائلة بريطانية مكونة من زوج وزوجة متقاعدين بمنطقة ويمبلدون، تقول عنهما: «احتضناني كابنة لهما».
وبعد استقالتها تغير برنامج حياتها اليومي. فصارت تستيقظ في الصباح الباكر وتقضي أوقاتها في القراءة والكتابة والاستماع إلى الموسيقى والاستمتاع بمباهج لندن وحدائقها الغناء. وأخيراً فإن للرشيد عدداً من الروايات التي قامت دار «روز اليوسف» بنشرها منها: «غداً يكون الخميس» (1975)،«العبث» (1980)،«الطلاق» (1993)،«ومن الحب» (2008)، علاوة على باكورة إنتاجها المطبوع وهو كتاب «نساء عبر الأثير» الصادر في عام 1973 عن شركة المدينة للطباعة والنشر.
1975
سردت هدى الرشيد بعضاً من المفارقات التي تعرضت لها خلال مسيرة عملها الإذاعية في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط (19/3/2018)، فذكرت أنها كلفت مرة بتغطية غداء ملكي في قصر باكنغهام بلندن، وقبل أن تصل هناك بمسافة قليلة، انكسر كعب حذائها، فدخلت القصر وهي محرجة، وقالت «تفهّم الجميع الأمر وأبدوا إعجابهم بتصميمي على أداء المهمة رغم حالة العرج المؤقت التي أصابتني».
وفي حادثة أخرى، وافق د.محمد عبده يماني على طلبها إجراء مقابلة إذاعية، فذهبت إليه وجرى تسجيل اللقاء لتكتشف لاحقاً أن الجهاز لم يسجل شيئاً، لكن الوزير هوّن عليها وطلب منها الحضور في اليوم التالي لإعادة التسجيل.
ومن الأمور الأخرى التي تتذكرها مذيعتنا، قصة بكائها عند قراءة نشرة الأخبار يوم وفاة الملك فيصل بن عبد العزيز، (25 مارس 1975). إذ بدأت تبكي ويتحشرج صوتها ويظهر فيه الحزن والبكاء ولم تستطع أن تكمل قراءة النشرة.
مهنية
قالت هدى الرشيد في حوار مع الشاعرة والإعلامية الفلسطينية لينا أبوبكر، في إحدى المطبوعات العربية الصادرة في لندن: «في إذاعة البي بي سي البريطانية تدربتُ على ضبط النفس، وعلى الحكمة التي لا تلغي الانتماء والمشاعر القومية تجاه قضايا مجتمعي العربي من المحيط إلى الخليج.
كنتُ ضمن محيط يراهن على المهنية والحقيقة في طرح الخبر، لم يكن يهمنا في (بي بي سي) السبق بنقل الأخبار متعددة المصادر، إنما كثيراً ما كنا نصر على التأني والتوازن لأن السبق الحقيقي بالنسبة إلينا في المحطة كان الحقيقة، الحقيقة هي السبق الإخباري الذي رجح لدى المستمع كفة الثقة بنا والحصول على يقين اليقين عبرنا»، وفي ردها على سؤال «من الأكثر أهمية من الآخر: الحقيقة، الخبر، المهنية أم الحيادية؟» قالت: «بعد أنْ انسحب صدام من الكويت، وحوصر العراق وأهلكه الهلاك، صدقنا ما سمعناه واعتبرناه تشويشاً إعلامياً تقوم به الإذاعات الغربية لصالح قواتها المتمركزة في الشرق الأوسط لا أكثر، وأنّ الهزيمة النكراء ستلحق بهم، وبتنا نقلب جهات الهوائي حتى نلتقط الأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية. كنا ضحية عواطفنا تماماً كما حدث في نكسة الـ67، فلماذا لا نتعظ إذن؟».