سفر شائق نحو الماضي الثري، يصحبنا إليه الباحث الآثاري ناصر حسين العبودي بشهاداته نحو الاكتشافات المختلفة في الإمارات من قطع مميزة عبر مواقعها الأثرية، لاسيما الدلاية الذهبية؛ أي القلادة أو التميمة أو التعويذة الأثرية المكتشفة في الفترة التي تعود إلى الألف الثاني ق.م، لنجده يأتي من بهو الذاكرة ببحث مهم ينال به جائزة العويس هذا العام في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية. حاورناه ليأخذنا إلى نقاشه في هذا البحث المهم وأهمية الآثار وتفسير القطعة بعد اكتشافها، فإلى التفاصيل..

تنوع المواقع

-نلت أخيراً جائزة العويس للإبداع عن بحثك القيّم «القلائد والتمائم والتعاويذ الأثرية المكتشفة في الإمارات في فترة الألف الثاني ق.م (فترة وادي السوق)».. ماذا عن البحث ومكانته ومدة إنجازه وسط مناخ فكري مليء بالتحديات؟

*هذا البحث رغم قصره أخذ مني مدة طويلة، قررت كتابته والخوض فيه، خاصة بعد أن تنوعت المواقع الأثرية في مختلف أراضي ومناطق الدولة جغرافياً وفي فترات زمنية مختلفة، وبعد اكتشاف الكثير خلال السنوات الماضية على السواحل والجزر وفي الجبال وعلى سفوحها وفي المناطق الصحراوية الرملية...

عولمة إعلامية

_برأيك، كيف تؤثر نظرة العالم إلى العولمة الإعلامية والسياحة واغتراب الإنسان في نظرتنا إلى الماضي؟

*النظرة تتوقف على العلاقة بين العولمة والسياحة وتأثير كل منهما، والأهم الآن طريقة التفكير، أي كيف ننظم الرحلات السياحية للمواطنين إلى الأمكنة الأثرية من خلال المدارس والجامعات والقطاع الخاص كي لا يأتي هذا الاغتراب لنظرتنا إلى الماضي، ويجب أن لا تكون لدينا نظرة ذاتية إلى كل كيان، بل مصلحة وطنية، فالأوطان الآن تبني نفسها بحيوية الشباب والأسفار والرحلات أكثر من أي وقت مضى في التاريخ.

حوار

-ألا ينبغي لعلماء الآثار الاستجابة لهذا التشتت المعرفي الأثري، ألم يحن الوقت للحوار بين الآثاريين في العالم؟

* علماء الآثار ينظمون سنوياً حواراً وجهاً لوجه في مؤتمر دولي، كما يجتمعون سنوياً من خلال جمعية علماء الآثار، وتتحاور لجنة من كبار العلماء حوارات أثرية ومناقشات تهدف إلى معالجة مسائل مرتبطة بتساؤلات مكررة لدى الناس، مثل: ما مدى أهمية معيار الفائدة؟ وكيفية ضبط قيمتها؟ وكيف يجب أن تكون الآثار مفيدة؟ والحوار حول الكثير، ونتمنى ترجمة هذه الحوارات وبثها للعرب، من أجل المزيد من الوعي.

دلايات ذهبية

-الدلايات الذهبية التي تم العثور عليها في مختلف المواقع الأثرية بالدولة التي تناولتها في بحثك المعتمد، لاحظنا أن أغلبها حيوانات خرافية، فهل أن توضح نظرية وجود هذه الدلايات في ذلك الوقت؟

*خرجت هذه الدلايات نتيجة ازدياد أعمال التنقيب في الإمارات، ولفت نظري من تلك المكتشفات هذه الدلايات التي ربما أنها تعاويذ أو تمائم، ولكن رأي الأغلب والأكثر قناعة أنها تمائم أو حروز اكتشفت في بعض المواقع مثل القبور وهي تمائم خاصة بالبشر، وربما كان بعض منها مخصصاً للحيوانات، وربما ليست تمائم، بل مجوهرات عادية يلبسها الإنسان، فالتعاويذ مواد أو قطع فنية مميزة، والقصد من استخدامها هو منع الأذى وتحصين الإنسان من الشر والأشرار، ومما يدور حول هذا المحب إن كان أباً أو ابناً أو أخاً أو زوجاً أو حبيباً، إضافة إلى أنها دلايات مخصصة لطلب الخير والسعادة، ولكن لأن أقدم هذه القطع يعود إلى الألف الثاني ق.م، فإن المعلومات الوافية والدقيقة تكون صعبة في هذه الفترة القليلة من سنين الاكتشاف، كما أن ما لا شك فيه أن موضوع التمائم والقصد منها عندنا اليوم ربما يكون متغيراً ومختلفاً عن فترة العالم القديم الذي يعود إلى 5 آلاف أو 4 آلاف سنة من الآن، ولكن لا تزال قضية حماية نفس المحب من الضرر وجلب الخير والحظ تتصدر المفهوم بذكر عبارات التمني الدينية المتقربة للآلهة منذ أقدم الأزمان.

تعليق

- بماذا تعلق على قول البروفيسور دان بوتس، منقب موقع «ند» الأبرق بين الشارقة وأم القيوين، عام 1989م بعد اكتشافه في قبر على دلاية ذهبية طولها 2 سم على شكل تيس أو كبش رشيق مصنوع بالقالب وليس باليد، إنها تميمة تعلق على الرقاب لتخويف الآخر.

* باعتقادي أن طريقة التعليق صعبة الاستعمال، أي التعليق على رقاب البشر، حيث سيؤدي إلى انقلاب هذا النموذج على الرقبة عند التعليق، ويلاحظ ذلك على نموذج قطارة المبالغة في التنفيذ، والسؤال: هل المقصود من ذلك تخويف الآخر، لكن من هو الآخر؟ هل هو الشر والأرواح الشريرة لطرده وحماية الإنسان، فهناك نوع آخر ذو ثقبين، أحدهما عند الذيلين، والآخر وسط تشابك الرجلين، أحدهما من تل الأبرق، وأعتقد ربما أنه مخصص للتعليق أو لرقاب الحيوانات (ولكن هل يعلق الذهب برقاب الحيوانات) أو التثبيت بالمعبد أو البيت أو في مكان آخر كالحقل أو المزرعة أو الخيمة. وفي النماذج الأخيرة يكون التثبيت بمسمار، وهذا الأمر ليس غريباً، بل هو موجود لفترات زمنية متأخرة حتى الوقت الحاضر في دول الشرق ومنها الإمارات.

زخرفة دقيقة

- ما مدى جودة الصائغ القديم وبماذا تعلق على تنفيذه كل هذه الزخرفة الدقيقة على الأزاميل؟

*موضوع الصائغ أو الذهب وجلب المادة كانت محلية بالدولة أو مستوردة للصناعة حظي بآراء وبنقاش بين بعض علماء الآثار، فمنهم من أشار إلى وجوده محلياً بينما البعض الآخر ذكر أنه مستورد من الخارج. إن صناعة القطع الذهبية تمت بالشكل التقليدي المتعارف عليه وأمكن لاثنين من علماء الآثار فقط تحديد أو اقتراح طريقة التصنيع لأهميتها في الدراسات مثل الصناعة بالقالب كما يقول «بوتس»، والآخر يحدد أنها بالطَرق كما ذكر وليد ياسين، وعن طريق القالب النصفي، أما التزيين والزخرفة الدقيقة بالأزاميل تلك التي تشبه المسامير أو الإبر المختلفة الأحجام، فالذي ساعد الصائغ على تنفيذ ذلك رقة القطعة، وهذا الأمر يدعونا للتساؤل: لماذا هي بهذه الرقة وخفة الوزن، هل لقصد صناعي أو لندرة المواد مثل الذهب والفضة في ذلك الوقت أو أنها للاستعمال لمرة واحدة والقصد منه تنفيذ أمر طقسي أو ديني لوضعها بالقبور عند الدفن. إن تقنية اللحام ليست بالأمر الهين، وخاصة في السابق، أي قبل 4 آلاف سنة تقريباً، حيث يتطلب اللحام مادة رابطة قد يكون الزئبق بعد تسخينه وصهر القطعتين قليلاً بهدف لحمهما، وإن ذهبنا إلى موقع «ساروق الحديد» بدبي الذي يعود إلى فترة العصر الحديدي، فقد تم العثور على قطع تشير إلى وجود ورشة صناعية يعالج فيها الذهب، ويعتبر هذا الموقع فريداً من نوعه.

«اليرز»

- ماذا عن الفأس المعروف لدى قبائل الشحوح والظهوريين بـ«اليرز» في شمال الإمارات ودبا وشعم وشمل وضاية في رأس الخيمة ومحافظة مسندم في سلطنة عُمان؟

*«اليرز» عبارة عن فأس صغير كان يصنع من الفضة أو الذهب، عليه خطوط غائرة مستقيمة وهندسية وتصنع في المنطقة نفسها، وهو للزينة بأطوال مختلفة لا تزيد على 10 سم وعرض لا يزيد على 5 سم، فيه مسكة يد من الخشب بطول 60 إلى 80 سم، وهو سلاح صغير كما أنه أداة تُمثّل مكانة الشخص في مجتمعه، وكما يقول دانيال بوتس، يحملها قبائل الشحوح منذ في العصر الحديدي.

ناصر العبودي في سطور:

 باحث إماراتي من مواليد عام 1955م.

 نال بكالوريوس الآثار القديمة من جامعة «بغداد» عام 1977م .

 عضو اللجنة الدائمة للآثار والمتاحف (المنظمة العربية للتربية والثقافة).

 عضو اتحاد المؤرخين العرب.

 عضو المجلس لدولي للمتاحف.

 لديه عدّة كتب منشورة منها:

- «آثار الشارقة» (1978م).

- «الأزياء الشعبية الرجالية في دولة الإمارات» (1987م).

- «مسجد البدية» (1992م).

- «ترميم برج المقطع بأبوظبي» (2000م).

- «حقيقة قصر الزباء برأس الخيمة» (2001م).