في تاريخ المملكة العربية السعودية ثمة شخصيات نسوية لعبت دوراً مؤثراً في صنع الأحداث ومواكبة التطورات السياسية والاجتماعية الكثيرة التي حفل بها القرن العشرين، بل كان لها تأثير مباشر لجهة تشكيل المشهد العام خلال السنوات الأولى من قيام الدولة السعودية الثالثة على يد الملك الراحل عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، رحمه الله.
على أن أكثرهن شهرة وتأثيراً، وأعلاهن مقاماً وشأناً، وأقواهن حضوراً وبروزاً، هي الأميرة نورة، ابنة الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود، وكبرى شقيقات الملك المؤسس وأقربهن إلى قلبه ووجدانه، بدليل أنه، رحمه الله، كان يعزها كثيراً وكان ينتخي بها في الحرب والهول قائلاً: «أنا أخو نورة»!
في أكتوبر 2008 وأثناء وضعه حجر الأساس لأول مدينة جامعية حكومية مخصصة للبنات في المملكة تنازل الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، خادم الحرمين الشريفين حينذاك، عن إطلاق اسمه على هذا الصرح التعليمي المقام على مساحة 3 ملايين متر مربع وطلب تسميته بـ«جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن».
وقبيل الاحتفال باليوم الوطني السعودي التاسع والثمانين في 23 سبتمبر 2019 وجه الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع بالمملكة العربية السعودية، أوامره بترميم قصر الشمسية بحي المربع في قلب العاصمة الرياض على نفقته الخاصة.
وهذا القصر ذو النقوش الفريدة والطراز المعماري الرفيع المتفق مع أنماط البناء المحلية في خمسينيات القرن الهجري الماضي، لمن لا يعرفه، أمر ببنائه على الضفة الغربية لوادي البطحاء الملك عبدالعزيز، سنة 1354 للهجرة ليكون سكناً لشقيقته الأميرة نورة وزوجها، فانتقلت إليه من سكنها السابق في الديرة جوار قصر الحكم.
المولد والنشأة
ولدت الأميرة نورة في الرياض سنة 1875م، لذا فهي تكبر شقيقها الملك المؤسس بعام واحد. تعلمت القراءة والكتابة في زمن كان فيه من النادر وجود نساء متعلمات.
ولعل هذا هو أحد أسرار وعيها المبكر بما يدور حولها من أحداث وتطورات، بل أحد العوامل التي ميزتها عن غيرها وجعلتها صاحبة حصافة وحكمة ورجاحة عقل (أنظر: هارولد ديكسون، الكويت وجاراتها، دار جورج ألين وأنوين المحدودة، لندن/1986، صفحة 259)، علاوة على تمتعها بالحس السياسي، حتى قيل في وصفها إنها «تتمتع بحملها عقول أربعين رجلاً».
والدها هو الإمام عبدالرحمن (توفي عام 1928) آخر حكام الدولة السعودية الثانية.
ووالدتها هي سارة بنت أحمد بن محمد السديري (توفيت عام 1910) المولودة في سبعينات القرن الثالث عشر الهجري بالأحساء لأب هو أحمد بن محمد بن تركي بن سليمان السديري الملقب بـ«أحمد الكبير»، علماً بأن أحمد الكبير (توفي عام 1277 للهجرة)، الذي وصفه المؤرخ ابن بشر بالرجل العاقل السمح الجواد المحبوب، بايع الإمام تركي مع جماعته من أهل الغاط (منطقة بين المجمعة والزلفي) سنة 1239 للهجرة، ثم عينه خالد بن سعود أميراً لسدير سنة 1253 للهجرة، واختاره خورشيد باشا أميراً على الأحساء لفترة من عام 1254 للهجرة لتهدئة روع أهلها من الأتراك قبل أن يعيده مرة أخرى أميراً على سدير.
وحينما غادر خورشيد باشا المنطقة عائداً إلى مصر عزله خالد بن سعود. وفي عام 1258 عينه عبدالله بن ثنيان على القطيف، ثم عينه الإمام فيصل بن تركي على الأحساء سنة 1260 للهجرة ثم تمّ نقله سنة 1270 للهجرة، ثم أعيد إلى الأحساء مجدداً سنة 1273 للهجرة.
خدمة الدولة
جدة الأميرة نورة لأمها هي حصة بنت مهنا بن صالح النويران (أنجبت لزوجها أحمد الكبير كلاً من تركي وعبدالرحمن، وأنجبت من زوج سابق كلاً من محمد وعبدالمحسن وعبدالعزيز)، وجميعهم ساهموا في خدمة الدولة السعودية الثانية في مواقع إدارية مختلفة في الأحساء وسدير والقصيم، علاوة على مشاركتهم في الفتوحات العسكرية)، كما أنجبت ثلاث بنات هن: نورة التي تزوجها جلوي بن تركي بن عبدالله، وفلوة التي تزوجها الأمير محمد بن فيصل بن تركي، وسارة التي تزوجت عبدالله بن حمد بن عبدالجبار وتوفي عنها دون أن تنجب منه، ثم تزوجها الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي فأنجبت له فيصل ثم نورة ثم الملك عبدالعزيز ثم بزة وهيا وسعد.
أما زوج الأميرة نورة فهو الأمير سعود بن عبدالعزيز بن سعود بن فيصل الكبير الملقب بسعود الكبير (توفي عام 1959).
والأخير هو ابن عم الملك المؤسس وكان سنده في الشدائد ومن أقرب المقربين إليه، بدليل أنه زوّجه شقيقته المفضلة، وبعد وفاتها زوّجه ابنته الأميرة حصة، ناهيك عن أن الملك عبدالعزيز حينما حانت منيته وهو بالطائف في نوفمبر 1953 طلب من أبنائه مقابلة الأمير سعود الكبير دون سواه من أبناء عمومته، فدار بينهما حوار لم يعلم أحد بتفاصيله.
مصاعب جمة
اضطرت الأميرة نورة لمغادرة مسقط رأسها في سن السادسة عشرة مع والدها الإمام عبدالرحمن وأمها سارة بنت أحمد بن محمد السديري وبقية أسرتها، إلى الكويت، في أعقاب معركة المليداء سنة 1891م، التي انتصر فيها أمير حائل محمد بن رشيد على أمراء القصيم الموالين للإمام عبدالرحمن.
ويذكر المؤرخون المصاعب الجمة التي تحملتها الأميرة سارة السديري بعد هذه المعركة التي فرضت عليها وعلى زوجها الخروج من الرياض إلى بادية المنطقة الشرقية، فإلى البحرين، قبل استقرارهما في الكويت، وكيف أنها كانت عنوانا للصمود، وعوناً لزوجها، صابرة على الشدائد وقسوة الظروف، وممارسة في الوقت نفسه دورها في تربية أبنائها وتوجيههم وإعدادهم لتحمل تبعات المستقبل على أكمل وجه.
وهكذا كتبت الأقدار للأميرة نورة وشقيقها الملك عبدالعزيز، أن يعيشا سنوات طفولتهما في الكويت ويرتبطان ببعضهما البعض منذ تلك السنوات المبكرة من حياتهما، الأمر الذي جعل الأميرة نورة سنداً لشقيقها ومستودعاً لأسراره، بل كانت عامل إلهام ودفع له في استعادة ملك آبائه وأجداده.
وفي هذا السياق، كتبت الدكتورة دلال مخلد الحربي في الصفحة 146 من كتابها «نساء شهيرات من نجد» الصادر في عام 1998 عن دارة الملك عبدالعزيز، نقلاً عما ذكره خير الدين الزركلي في كتابه «شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز» (دار العلم للملايين/بيروت/1985/الطبعة الثالثة/ الجزء الأول/ ص 78) قائلة: «كانت الأميرة نورة، وبعد سنوات من استقرار الأسرة في الكويت، عاملاً مهماً في شحذ همة أخيها عبدالعزيز في السعي نحو استعادة ملك آبائه، فوفقاً للمعلومات المتاحة كانت هي التي حثته على تكرار محاولة استعادة الرياض بعد أنْ أخفق في المرة الأولى، فأخذت تقوي من عزيمته وإرادته، وعندما عزم على الخروج من الكويت لاستعادة الرياض، بكت والدته بكاء حاراً، غير أن نورة شجعته، فدخلت عليه قائلة: (لا تندب حظك، إنْ خابت الأولى والثانية فسوف تظفر في الثالثة، ابحث عن أسباب فشلك، فالرجال لم يخلقوا للراحة).
وهكذا كانت هذه الكلمات سبباً من أسباب نجاح الملك عبدالعزيز في فتح الرياض سنة 1902م. ذلك الحدث الكبير الذي شكل نواة قيام الدولة السعودية الحديثة.
أما الأميرة الراحلة مشاعل بنت فيصل بن عبدالعزيز فقد قالت عن جدتها لأمها (نورة بنت عبدالرحمن)، نقلاً عن أمها الجوهرة بنت سعود الكبير، إن الملك عبد العزيز دخل يوماً على أخته وهي تأكل تمراً، فناولته حبة تمر وقالت له «متى نستعيد تمور الأحساء»، فنفض الملك عبد العزيز يده، وكأن هذه العبارة زادت من حماسه وعزمه على المضي في طريق المجد واستعادة ملك أجداده».
ترابط العائلة
بعد فتح الرياض، تزوجت نورة في عام 1905 بالأمير سعود الكبير كما أسلفنا، فأنجبت له الأمير محمد بن سعود الكبير الملقب بـ«شقران»، ثم الأميرة حصة، فالأميرة الجوهرة التي تزوج بها الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز وأنجبت له ابنة وحيدة هي الأميرة الراحلة مشاعل الفيصل.
وقد أشارت دلال الحربي في كتابها المذكور آنفاً أن زواج نورة بسعود الكبير كان من عوامل ترابط العائلة الحاكمة وبمثابة رمز للمصالحة بين شقيقها عبدالعزيز وأبناء عمومته.
وكان البريطاني هارولد ديكسون أكد هذا الكلام في كتابه المشار إليه آنفاً (الصفحتان 86 و259)، وأضاف إليه أن زواج نورة بالأمير سعود ساعد على استقطاب قبيلة العجمان إلى جانب الملك المؤسس، كون والدة الأمير سعود (وضحى بنت حزام بن حثلين) من هذه القبيلة.
حضور لافت
وبعد أن استتبت الأمور للملك عبدالعزيز في نجد، سجلت الأميرة نورة خلال فترة وجيزة حضوراً لافتاً في المشهد العام طبقاً لتقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط (11/9/2019). إذ راحت تلعب أدواراً مؤثرة من خلف الكواليس في سبيل استقرار البلاد والإشراف على بعض أمورها الاجتماعية.
فمثلاً اعتمد الملك عبد العزيز عليها في بعض الأمور ذات الصلة بشؤون القبائل، ولاسيما تلك المتعلقة بالنساء من ذوي العلاقة بشيوخ القبائل أو من ذوي المكانة في المجتمع.
ومن جهة ثانية أشرفت، بما وهبها الله من شجاعة وحنكة وقوة شخصية، على تسيير أمور نساء العائلة وحل مشاكل وشؤون القصر الداخلية، مزيحة بذلك هذه المسؤولية عن كاهل الملك المؤسس.
كما كانت تشفع عند الملك للكثير من المحتاجين وأصحاب القضايا، وكانت تلعب أيضاً دور المستشار لشقيقها الملك المؤسس في أمور كثيرة، حيث كان الأخير دائم اللجوء إليها والحديث معها والبوح بأسراره لها، طبقاً لما كتبته الدكتورة دلال الحربي.
تشجيع الأطفال
وبسبب كونها إنسانة متعلمة، كان لديها شغف واهتمام بتنمية مدارك الأطفال وتشجيعهم على الالتحاق بالتعليم، وآية ذلك أنها كانت تكافئ الأطفال الذين يختمون القرآن الكريم، كما كانت في الوقت نفسه عطوفة وكريمة مع الأطفال اليتامى.. ترعاهم وتحاول تعويضهم عن حنان أمهاتهم وتجد لذة في مد يد العون لهم بما آتاها الله من فضله.
وقد أتى على ذكر هذه الخصلة الحميدة من خصالها عبدالرحمن سليمان الرويشد في كتابه «قصر الحكم في الرياض، أصالة الماضي وروعة الحاضر» (دار الشبل/الرياض/ الطبعة الأولى/1992/ص 125). وفي السياق نفسه، ســُجل عن الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز قولها، إن عمتها نورة كانت تملك مزارع في الأحساء تجود بالتمور والألبان والخضراوات، فخصصت ناتجها للمستحقين من الفقراء والأيتام.
جاذبية ومرح
قالت عنها السيدة فيوليت ديكسون (توفيت عام 1991) عالمة النباتات البريطانية وزوجة الكولونيل هارولد ديكسون (توفي عام 1959) المعتمد السياسي البريطاني في الكويت في الفترة ما بين عامي 1929 و1936، حينما قابلتها في الرياض سنة 1937 مع بعض نساء الملك المؤسس، إنها من أكثر النساء اللواتي قابلتهن جاذبية ومرحاً، بل واحدة من أهم الشخصيات في الجزيرة العربية.
كما أتت فيوليت ديكسون (طبقاً لما نشره زوجها في كتابه «الكويت وجاراتها» (مصدر سابق، ص402) ونقلته عنها دلال الحربي في كتابها (ص 152) بقولها إن نورة كانت «منفتحة الذهن تتماشى في سلوكها مع تطورات العصر، فعلى سبيل المثال، كانت تعد الهاتف أداة ضرورية مفيدة، ففي نص ترويه فيوليت ديكسون تذكر أنها خلال زيارتها لها رن الهاتف فقامت إحدى الخادمات بالرد على المتحدث، وبعد انتهاء المحادثة الهاتفية قالت فيوليت معلقة إنها تنزعج من الهاتف، فردت نورة: «لا إنه رائع لست أدري إذا كنا نستطيع البقاء بدونه».
ركوب الطائرة
ممن كتبوا أيضاً عن الأميرة نورة، العالم المكي الأستاذ أحمد بن علي بن أسد الله الكاظمي (توفي عام 1993) بحكم عمله مدرساً في مدرسة الأنجال (مدرسة أسسها الملك عبدالعزيز لتعليم أبنائه وأبناء العائلة من الأمراء)، واستناداً إلى ما سمعه من الأمراء الذين كان يتولى تدريسهم.
حيث سجل الكاظمي في مذكراته، التي أعدها للنشر الدكتور فهد بن عبدالله السماري، وصدرت في العام 2016م عن دارة الملك عبدالعزيز: «قال أحد الأمراء من طلبتنا: اليوم ستتوجه (العمة نورة) إلى الحجاز جوّاً». وهذا يدل على أن الأميرة نورة ركبت الطائرة لأول مرة في حياتها بقصد أداء فريضة الحج عام 1365هـ.
توفيت الأميرة نورة عن عمر ناهز السابعة والسبعين في شوال 1369هـ/ يوليو 1950م، بعد أن أصابها مرض لم يشخصه الأطباء، وصارعته عاماً إلى أن أسلمت الروح ودفنت بمقبرة العود بالرياض، رحمها الله.
1938
من أهم النساء الأجنبيات اللواتي التقين الأميرة نورة خلال زيارتهن للمملكة العربية السعودية الأميرة ألس (توفيت عام 1981) حفيدة الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا التي حلت في الرياض مع زوجها إيرل أثلون (توفي عام 1957) في مارس من عام 1938 ضمن جولتها في ربوع المملكة التي دامت نحو ثلاثة أسابيع ما بين شهري فبراير ومارس، حيث كانت تلك الزيارة هي الأولى لأفراد من العائلة المالكة البريطانية إلى المملكة، وقد سجلت الأميرة ألس انطباعاتها عنها في رسائل وجهتها لإبنتها الليدي «مي أبل سميث»، فقالت مثلاً في وصف الملك المؤسس «لقد كان بالفعل رجلاً شهماً نبيلاً، ومتحدثاً لبقاً ومرحاً، وصاحب أسلوب وخلق وجاذبية».
كما تطرقت إلى قيامها في صبيحة الأول من مارس بقضاء بعض الوقت مع عائلة الملك عبدالعزيز، واصفة اللقاء وما دار فيه من أحاديث بالشيق. وقد التقطت الأميرة ألس خلال هذه الزيارة نحو 320 صورة، من بينها صورة تجمعها بالملك المؤسس وحولهما بعض الأمراء ورجال الحاشية في جدة. لكن هذه الصورة يتداولها البعض خطأ على أنها للأميرة نورة مع شقيقها الملك.
مكانة رفيعة
ســُجل عن المستعرب البريطاني الذي كان مقرباً من الملك عبدالعزيز آل سعود، هاري سانت جون فيلبي (توفي عام 1960)، وصفه للأميرة نورة بـ«السيدة الأولى» في بلادها، كناية عن مكانتها السامية في قلب الملك عبدالعزيز والاهتمام الكبير الذي كانت تحظى به منه رحمه الله.
وهو ما أكده المؤرخ البريطاني ديفيد أرمين هوارث (توفي عام 1991) في ص 37 من كتابه «ملك الصحراء، حياة ابن سعود» طبعة عام 1980.
أدوار مهمة
عهد الملك الراحل عبدالعزيز آل سعود، إلى شقيقته نورة تحديداً، دون سواها من أخواته، بمهمة استقبال ضيفات البلاد من النساء الأجنبيات، فكانت تؤدي مهام السيدة الأولى بحرص ودقة، سواء لجهة واجبات الاستقبال والضيافة للنساء الزائرات من ذوات الشأن أو لجهة تقديمهن لزوجات الملك وبناته وأخواته، أو لجهة مرافقتهن لزيارة معالم البلاد الهامة.
هذا الدور الاجتماعي، معطوفاً على علاقتها المتميزة بقائد البلاد وموحدها، استرعى انتباه الكثيرين من المؤرخين والرحالة الأجانب من ذوي الاهتمام بشؤون الجزيرة العربية، فتحدثوا عن هذا الدور وعن صاحبته.