يعد المفكر والناقد السعودي الدكتور عبدالله الغذامي من القامات الأدبية التي تركت أثراً طيباً على عدة مستويات في المجالات الفكرية والثقافية العربية، وأثرت المكتبة العربية بنتاجات علمية معرفية تجاوزت الحدود.
وقد كان لـ«البيان» حوار معه بعد أيام من مشاركته في «منتدى الإعلام العربي» الذي أقيمت فعالياته في دبي في أبريل الفائت، وألقى خلاله محاضرة عن الخوف الثقافي عنوانها «أفكار جديدة... لماذا الخوف؟».
وأكد أن ما عرف بالغزو الثقافي هو افتئات على الثقافة وظلم لها، لأن الثقافة لا تغزو أحداً أبداً، ولكننا نحن من يغزو الثقافة، فالثقافة بريق رفيع المنزلة إذ يتّجه الكلُّ إليها، وليست هي التي تتّجه إلينا، وبالتالي فإن فكرة المؤامرة وفكرة الغزو هي بالمنطق العلمي للمفاهيم من الأشياء التي ليست موجودة في الواقع. كما شدد على أن خوفنا ومخاوفنا الثقافية، تحرمنا من غنى المكون الحضاري والثقافي لدى الآخر.
حول هذا الموضوع وموضوعات أخرى.. حول المرأة واللغة والشباب وأهم إنجازاته اليوم كان لـ«البيان» مع الغذامي الحوار التالي:
السؤال الأول سيرجع بنا إلى الخلف، إلى شهر أبريل الفائت، محاضرتك في منتدى الإعلام التي تحمل عنوان «أفكار جديدة.. لماذا الخوف؟» وكانت تدور حول موضوع «الخوف الثقافي»، والواقع أن هناك قراءة لمجتمعنا العربي في الوقت الراهن وحديث عن الذاكرة التي تشكلت فيها مخاوف ثقافية لدى المواطن العربي، هل يمكن أن نعرج عليها قليلاً؟
نعم، سألخصها لكم. في الواقع أنه منذ المئة سنة الأخيرة أثرت فينا نحن العرب الأحداث التي ابتدأت من الثورة العربية ضد الاحتلال العثماني ثم توقيع معاهدة سايكس بيكو واحتلال «فلسطين»، ولم تزل هذه العلاقة تؤثر فينا، فقد أصبح التصور أن الغرب ليس مستعمراً فحسب، وليس إمبرياليا فحسب وليس قوة عظمى فحسب، أصبح بعضنا يعتقد أن هذا الغرب أضحى متآمراً على ثقافتنا وتراثنا، وأن هذا التآمر مخصص أو موجه لنا نحن كعرب تحديداً، وبالتالي بدأ هذا ينتج العلاقة السالبة بيننا وبين الغرب.. وهكذا صار يبدو أن الغرب أصبح يقع تحت ثنائية المحبوب المكروه؛ نحبه كثقافة وتكنولوجيا، ونكرهه بسبب الذهنية التآمرية.
لكن هذه الصورة يصاحبها صورة أخرى، وهو أننا لو فككنا مفهوم المؤامرة سنجده مرتبطاً بمفاهيم علاقات الأمم ببعضها منذ الأزل؛ والذي يتصفح تاريخ الأمم والشعوب السالفة، يرى أنه لم توجد أمة قوية إلا وكانت تتآمر على غيرها، لأن هذا شرط لوجودها، بل إن هذا قد يحدث حتى مع الأفراد مع بعضهم، في حياتنا العادية.
فإن فكرة أن يتسلط الإنسان على أخيه الإنسان موجودة منذ أيام «هابيل» و«قابيل»، ولذلك فإن مكمن الخطأ في هذه المسألة أن تتحول المؤامرة الفكرية والثقافية علينا من قبل الآخرين إلى هاجس ملازم لنا وتصبح «فوبيا»، وهنا يكمن الخطر، وهو أننا نصاب بالخوف الثقافي، الذي يمنعنا من أخذ ما هو إيجابي من ثقافة الآخر وفكره.
والحقيقة أن الأقوى والذي لا يتأثر بالخديعة هو القادر على تجاوز الأزمة بتفكيره، لكن الثقافة في الواقع تعاني من هذه الفوبيا.
ولا يزال هذا الخوف موجوداً، أليس كذلك؟
بلى، طالما أن هناك ما يعززه وهو النخب، النخب الثقافية والسياسية، لقد كان القوميون يغرسون الخوف الثقافي والفكري بدعوى حماية العرب من الاستعمار، ثم أتى المتأسلمون الذين يدعون التمسك بالدين لأغراض خفية.
والواقع أن فكرة الضحية أنتجت ردود فعل مستمرة وليس فعلاً، وردود الفعل دائماً تنتج حتى الإرهاب، إن الإرهاب في حقيقته نوع من أنواع ردود الفعل «السالبة الغبية» التي لا تحلل الظواهر، وبدلاً من ذلك تلجأ إلى التفجير والقتل والهمجية غير المبررة. والحقيقة أننا إذا تحولنا من رد الفعل إلى الفعل فلن تقع إشكالات وعاهات ثقافية كهذه الجماعات.
الرجعية الثقافية
على ذكر المخاوف الثقافية، هناك ما يمكن أن نسميه مخاوف المرأة، أنت بددت مخاوف المرأة من خلال بحثك في اللغة، من كتاب «المرأة واللغة» إلى «الجهنية» إلى «الجنوسة النسقية» وغيرها، لقد نسفت الكثير من المفاهيم ومن بينها مفهوم «التأنيث» أردت تعليقكم على هذا...
إن هذه المراجع كلها تتعلق بما يعرف بـ«النسق الثقافي» وهنا أعني الفكر الثقافي، ومنتوج الثقافة، والمنتوج اللغوي. والحقيقة أن المتتبع للغة والشعر والأمثال والصيغ التبادلية على مر الزمن، سيجد أننا نصنف المرأة في موضع أقل، والواقع أن كتاب «المرأة واللغة» كان هو البداية التي تطورت إلى مجموعة أبحاث تعالج هذا الخطاب النسقي. أما بالنسبة لمفهوم التأنيث فإن شرط خلاص المرأة من سجن الدونية هو أن تنتج خطابها عن تأنيث اللغة، وذلك بأن يكون لها دور ريادي في إنتاج اللغة؛ فالذي ينتج اللغة هو الذي يحتل الذهنية.
أما دعوى أن الرجل يتكلم عن المرأة فهذا غير صحيح، المرأة ليست جسداً، بل لها قيمة إنسانية. وفي الحقيقة لا بد من نقد هذا الخطاب بخطاب موازٍ، وهذا دور إبداعي ينبغي على المرأة أن تضطلع به، وعندما تؤدي المرأة دورها في أداء هذا الخطاب باستمرار فإنه لا بد أن يحصل التغيير ولو بمرور الوقت. لقد قلت: إن هناك شعراً للبعض يعزز سلطوية الرجل، وهو رمز للرجعية الثقافية يقوم على الرجعية الثقافية ويتلبس لباس الحداثة، وفي الواقع يوجد لدينا أيضاً خطاب ثقافي حداثي جيد ومتوازن في نظرته للمرأة كما في شعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأمل دنقل.
غطاء
مما يترتب على هذا أن صيغة وقيمة سامية كالحب قد ظلمت، ومعها قد ظلمت المرأة في الحب، فهي حسب الخطاب الرجعي «كائن غير مشخص في العاطفة»...
المشكلة تكمن في أنه عندما يجري تحت غطاء الحب تقليص المرأة إلى جسد فقط وتلغى كل الصفات والسمات الأخرى، وهذا خطاب ممثل أيضاً في كل أشكال الخطاب، ولو استمعت إلى أغنية، أو الموضة أو الإعلانات، فستجد أن المرأة بالنسبة لها جسد غالباً ما يستغل ويصبح سلعة، وهي بهذا المعنى تكون قد ألغيت وأبعدت.
ولو لاحظت أن المذيعات والممثلات والمطربات يطالهن هذا الخطاب، فإذا كبرت في السن أبعدت وألغيت لأن جمالها قد ذهب وهو من الشروط الأساسية للخطاب المتخلف، وحتى بعض المبدعات عندما يكبرن يعتزلن، هنا تفقد المرأة علاقاتها العامة مع الآخرين، وفي الحقيقة فإن المرأة ضحية الثقافة.
مناضلات
من النماذج الحداثية الثقافية المشرقة للمرأة التي أشدت بها، الشاعرة نازك الملائكة التي «حطمت عمود الشعر»، وهذه العبارة لك، وكذلك أشدت بالروائية السعودية رجاء عالم في روايتها «4 صفر»، وهي نماذج تثبت أن الثقافة أولاً وأخيراً تمثيل عملي جمالي.. ماذا عن حيثيات رأيك في هذا الشأن؟
القول بأن نازك الملائكة حطمت عمود الشعر يشكل رمزية عالية، فهي في الواقع قد حطمت سيطرة الرجولة بالابداع وبدأت بمشروعها رغم أنها بدأت بتراجعات بعد ذلك؛ لأنها أصلاً ضحية النسق، فانطلق السياب أكثر منها، غير أن نازك الملائكة كسرت باب النسق وفتحت باب القلعة، لقد خلقت ذاكرة ثقافية نسوية ظلت تسير خطوة خطوة حتى تجسدت الثمرة في تجربة مي زيادة.
وبسبب جهود مثل هؤلاء المناضلات اللاتي مهدن الطريق لم تعد المرأة تكتب باسم رجل حتى في الغرب، بل أصبحت تكتب وتنشر باسمها، وفي الحقيقة ليس سهلاً أن نغير مسار الذاكرة الثقافية، هذا الأمر يحتاج إلى عقود لكي يحدث، أما الهدف منه فهو أن تصل الثقافة إلى مستوى متوازن، وهنا يكون التأنيث ضرورياً وملحاً.
إن الحياة تقوم في الأساس على المزج ما بين الرجل والمرأة، وإذا لم نصل إلى هذا المستوى في داخل الذاكرة الثقافية فسيظل الجمود متواصلاً.
قلت: إن الثقافة تحول المثقف إلى مستبد، بعيد عن الخطاب الجمالي..ما الذي قصدته تحديداً؟
عندما يتحول المثقف إلى نخبوي ويشعر كما لو أنه يرى ما لا يراه غيره، وهي علة المثقفين، فسيصبح كذلك، أعني مستبداً، لكن لو تنازل أو على الأقل تواضع وسمح لنفسه بأن يدخل التعددية الثقافية وكان خطابة طبيعياً بالمفهوم الثقافي، فإن الجماهير العامة ستقبله.
«الشعرنة»
أنت تركز في بحوثك على الشعر، ربما لأنه الخطاب الأهم، والأكثر ارتباطاً بنا في عالمنا العربي، لكن يبدو أن الشعر من وجهة نظرك قد ارتكب خطيئة حين جنى على الشخصية العربية عموماً، هكذا فهمت الموضوع، هل هذا الفهم صحيحاً؟
الحقيقة أنني، في بحوثي، أركز على «الشعرنة» وهي تشمل كل أنواع الخطاب، في الدراما، في الإعلام، الثقافة، كل أشكال الخطاب، التي يتحول فيها المتكلم شاعراً بصيغة أخرى، ولم أركز على الشعر فقط، أما الشعر فهو من وجهة نظري علامة كبرى على «الشعرنة» وهي نسق يتعلق بالتفكير وهي عيب ثقافي، تعطي معنى الأوحد والأصوب الذي يقول ما لا يقوله غيره ويجوز له ما لا يجوز لغيره إلى آخره، مثل هذه الصفات هي ما يتصور ذاك المبدع معها أنها أعطته حق التفوق على غيره.
بما أننا نتكلم عن الثقافة، كيف تنظر إلى الشباب والثقافة، اليوم؟
واضح أن الجيل الشاب، الشباب اليوم، لم يعودوا يرتجفون ويخافون من النخبوية، وهذه ميزة مهمة. وعندما نتابع «تويتر» نلحظ هذا الشيء، فقد أسقط موقع «تويتر» من يدعي أنه أفهم وأقوى وأكثر إبداعاً من غيره، والذي أسقطه هو من يؤمن بنفسه وبقدراته وبأن لديه حقاً، وأنه ليس مجرد فرد في قطيع يريده أصحاب الحل والعقد كما يقال في هذا المثل الدارج: «أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة»، هذا غير سليم مئة بالمئة.
لقد أسقط هذا الجيل - جيل التكنولوجيا والشاشة والعمل الجاد - هذا الشيء، ولدينا في المملكة العربية السعودية تغير نوعي في المجتمع كله، بكل أطيافه وأجياله، وبخاصة الجيل الشاب الذي يؤمن بأن له رؤية معتبرة، وأنه هو منها ينجذب إليها ويعمل بنفسه، وهذا ما يعتبر الإنجاز الأهم لعصر التكنولوجيا الحالي. وفي الواقع أن الشباب قد تجاوزوا واقع أن يكونوا تحت الطلب، لقد أصبحوا هم الذين يتخذون قرارهم، وهو شيء مهم جداً.
حالة خاطئة
يؤكد الدكتور عبدالله الغذامي أن أكبر خلل وخطأ نعاني منه، ويسبب لنا أزمات حضارية متراكمة، شعورنا بأن هناك مؤامرة فكرية وثقافية، إلى جانب السياسية، تحاك ضدنا ..ومستمرة منذ عقود. إذ جعلنا ذلك نتقوقع ونبتعد عن غنى مكون فكر الثقافات الأخرى، ومن ثم أخذ يشعرنا بدور الضحية ويتحول الفعل معه إلى ردود فعل غير منتجة. ويتابع : لكن، ها قد تغيرت الوسيلة الآن، وبتغير الوسيلة تتغير المفاهيم، وبتغير المفاهيم تتغير طريقة التناول للحدث.
تغيرت وسائل التواصل الاجتماعي، في «تويتر» على سبيل المثال، قمت بدراسة الوضع، لأجد أن هناك ما يثبت أن الخوف موجود، وصار ظاهراً وليس خفياً، ليس لغزاً كما كان في السابق، شريطة أن ندخل في وسائل التواصل الاجتماعي، هذا التواصل جعل الصامتين يتكلمون، أما العينات التي تقوم بقياسها في «تويتر» فهي تثبت أنه صار لدينا تعددية ثقافية وما كنا نظنه خوفاً لم يعد خوفاً ومن السهل التعامل معه، وثمة آخرون يرون أنه يشكل خطراً.
وبالتالي أصبح الرهاب الثقافي يعني أموراً نفسية لدى الناس ينبغي التعامل معها، وفي علم الثقافات أصبح اكتشاف المخاوف اليوم ميسوراً لمن دخل إلى الخطاب العامالذي أنشأه الناس، لنتعامل مع المخاوف الثقافية بالشكل الصحيح حتى لا يفسد كل شيء في أذهاننا، ثم نشعر بدور الضحية، ومن يشعر بدور الضحية يتحول لديه الفعل إلى ردود فعل غير منتجة أبداً.
إضاءة
الدكتور عبدالله الغذامي مفكر وناقد أدبي وثقافي سعودي، أستاذ النقد والنظرية في جامعة الملك سعود بالرياض. له مشروع في النقد الثقافي والمرأة واللغة. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة «إكستر» البريطانية. حائز جوائز «مكتب التربية العربي لدول الخليج في العلوم الإنسانية»، «جائزة مؤسسة العويس الثقافية في الدراسات النقدية»، «تكريم مؤسسة الفكر العربي، للإبداع النقدي».
من أهم مؤلفاته:
«الخطيئة والتكفير»، «الكتابة ضد الكتابة»، «النقد الثقافي»، «الثقافة التلفزيونية»، «تأنيث القصيدة»، «المرأة واللغة»، «الفقيه الفضائي»، «تشريح النص»، «الجنوسة النسقية».