يصل النادل إلى الطاولة ويبدأ بوضع طلباتنا.
على الرغم من جوعنا، نرفع هواتفنا النقالة- قبل أن نرفع شوكنا وملاعقنا- كي نصور الوجبة الشهية المنظر لنشاركها في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي. نعم، أصبح تصوير الطعام قبل أكله لمشاركة الصورة، بالإضافة الى مشاركة معلوماتنا الشخصية ،و أماكن تواجدنا، وخططنا اليومية، وأفكارنا، وطموحاتنا مع العامة على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي أمرا طبيعيا، حتى لو أن الجمهور المتلقي هو مئات أو آلاف الأشخاص الذين لا نعرفهم لا عن قريب ولا بعيد.
كم اختلف معنى "الخصوصية" و "الحياة الشخصية" بين بداية القرن الحادي والعشرين ويومنا هذا! ففي الماضي، كنا نتحفظ عن مشاركة معلوماتنا أو تفاصيل يومنا مع زملائنا أو معارفنا من غير المقربين، وصورنا كانت أمرا بغاية الخصوصية حتى بين الأصدقاء . أما الآن، أصبحنا نشارك الكثير من معلوماتنا حتى لو بدون طلب، طالما أن هناك جمهورا يستقبل. وانتشار ظاهرة انعدام الخصوصية لا ينحصر بمجموعة عمرية معينة أو جنس أو خلفية اجتماعية، فتنوع مصادر المعلومات على مواقع التواصل الاجتماعي يعكس تنوع مستخدميه من كل العالم.
هل انتهى زمن الخصوصية؟
تقول هبة السمت، رئيس قسم الإعلام الجديد في تلفزيون دبي، "نحن الآن في عالم الإعلام الاجتماعي، وأصبح موضوع الخصوصية موضوعا قديما بعض الشيء، ولم يعد عليه الكثير من الأهمية."
أما الإعلامية ديمة الخطيب، والمتواجدة بقوة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، تقول، "بالنسبة لمن يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد هناك خصوصية، بل بقايا خصوصية نحاول انتشالها كي نحافظ عليها.
لكن بالنسبة لي، لم أخسر خصوصيتي لأنني أنا من أقرر ما أكشف عن تفاصيل حياتي وما لا أكشف عنه. أختار الصور بعناية، ولا أجيب عن أسئلة شخصية لا أريد الإجابة عنها. أنا أستخدم تفاصيل حياتي التي أشعر بالارتياح في مشاركتها كي أطرح قضايا تهم الآخرين".
أما الصحفية نوف الموسى فتقول، "أعتقد أنه في هذا الزمن لم تعد الناس تعي معنى الخصوصية، فنرى الكثير من الناس مثلا يقتصرون الخصوصية بالعلاقات الحميمية، على الرغم من مبدأ الخصوصية أوسع بكثير". وتضيف نوف، "أصل المجتمعات العربية أنها متحفظة وتشجع على الفصل ما بين الخاص والعام، فحتى داخل الأسرة كان هناك حد للانفتاح بين الأفراد. أما شبكات التواصل الاجتماعي فتحت المجال على مصراعيه. فقبل مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن هنالك ثقافة حوار وتعبير عن الرأي موجودة في العائلة أو الشارع أو الإعلام، مقارنة بالحال الآن، حين أصبح الجميع يقبل على طرح أفكاره وآرائه".
وشرحا لهذه الظاهرة، يقول الدكتور أحمد العموش عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة الشارقة " كان الإنسان في المجتمعات العربية سابقا يحافظ على خصوصيته ويربطها بمفاهيم الروابط الأسرية والاجتماعية. لكن مع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح لكل إنسان خصوصية منفردة واستقلالية لا أحد يحاسبه عليها، لأنها في عالم افتراضي خاص فيه. حتى من الممكن أن تكون لأفراد الأسرة الواحدة خصوصيات لا يعرفها أعضاء الأسرة الآخرين لكنها متاحة للغرباء، فتصبح مواقع التواصل مصدرا لتعرف أخبار أعضاء الأسرة الواحدة ببعضهم البعض".
لماذا لم نعد نهتم بالخصوصية كالسابق؟
يشرح الدكتور أحمد العموش عن أسباب إقبال الكثيرين على المشارك تفاصيلهم ومعلوماتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي قائلا ،" قد يسعى الناس لنشر معلوماتهم حبا منهم للظهور والبروز وللتباهي أحينا. أيضا، الكثير من الأشخاص وصلوا لدرجة من اللامبالاة تجاه خصوصياتهم نتيجة النشاط الروتيني أو الفراغ الذي قد يملأه الإنسان في مشاركة معلوماته وصوره عبر مواقع التواصل".
أما هبة تشرح قلة الاهتمام بالخصوصية قائلة "عندما يكون الشخص متواجدا على إحدى وسائل التواصل الاجتماعية، يصبح ماركة أو اسما مسجلا فيها، ويعلم أن لديه جمهورا متابعا يترقب كل ما ينشر من صور وكتابات. فيصبح لديه هوس بالنشر وإيصال المعلومة قبل الجميع ليكون له السبق، بالإضافة للاستعراض أو للترويج لنفسه للحصول على الشهرة بطريقة أو بأخرى. فنحن عبر وسائل التواصل الاجتماعي نرسم شخصية معينة عنا نحب أن تربطها الناس فينا، فنختار المعلومات التي نشاركها والمعلومات التي نحجبها عن المتابع، غالبا دون الاهتمام بالخصوصية".
وتضيف نوف الموسى، "هناك جزء آخر يستعمل هذه التكنولوجيا عشقا بالتكنولوجيا والمشاركة عن طريق مواقع التواصل، وحبا بفن لتصوير التواصل في الصور مثلا. أيضا، توافر هذه التكنولوجيا أولا بأول في الأسواق حفزت على انتشار ظاهر ة استعمال التكنولوجيا لنشر ومشاركة تفاصيل يومنا ".
أما مصطفى الشامي، أحد البائعين في محل للإلكترونيات، يقول "نحن نشارك اهتماماتنا ونشاطاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي لأننا نحب الحصول على إعجاب وتقبل غيرنا على وسائل التواصل الاجتماعية، مما يزيد ثقتنا بأنفسنا".
انفصام بين شخصية واقعية وأخرى افتراضية؟
وفي استطلاع للرأي مع مجموعة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعية، أيد أغلبهم فكرة أن وسائل التواصل الاجتماعي تساعد على خلق شخصيتين ونوعين من الخصوصية، الأول افتراضي ومتاح، والثاني واقعي وعليه تحفظات. فيقول أحمد الفلاسي "أنا أحتفظ بمعلوماتي الشخصية بعيدا عن وسائل التواصل الاجتماعي، فأستخدم اسما مستعارا لأنني أحس بحرية التعبير أكثر عندما تكون شخصيتي مجهولة.
وسائل التواصل الاجتماعية بطبيعة الحال لا تعكس واقع الشخص الحقيقية، لأننا ننتقي المعلومات التي نشاركها والتي نخفيها. نعم، لم يعد هناك اهتمام بالخصوصية كما في الماضي، لكن لازلنا نجد أن هناك اهتماما كبيرا في هذا المجتمع على المعلومات التي نقوم بمشاركتها والتي نحتفظ بها".
أما كريستوفر فيقول "أنا برأيي وسائل التواصل الاجتماعي قامت بزيادة حرصنا على خصوصيتنا وليس العكس، ففي الوقت الذي أصبح الناس فيه أكثر انفتاحا على مواقع التواصل الاجتماعي، باتوا أكثر تحفظا في الحياة الواقعية على خصوصياتهم وأصبحوا أقل اجتماعية".
في زمن التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، كل يوم يخبئ تقنية وبرنامجا جديدا يدخل على حياتنا ويؤثر في تفاصيل يومنا. فهل سنهجر خصوصيتنا أكثر فأكثر مع مرور الزمن لتصبح طي النسيان، أم هل ما نمر به من قلة اهتمام بالخصوصية هو مجرد صيحة جديدة لها تاريخ نهاية صلاحية؟ السنوات القادمة تحمل إجابات وافية لهذه التساؤلات.