لمشاهدة الغرافيك بالحجم الطبيعي اضغط هنا

 

تشكل رواية «المسخ» ربما المثال الأفضل على كيفية ترميز التهميش في عالم الأدب. وتدخل إلى عالم الأعمال الكلاسيكية من باب القدرة على طرح الأسئلة الكبرى التي تهجس بها الحضارة.

وإن كان مسخ كافكا يتحرك بانسيابية بين المذهل والعادي والمضحك والمرعب والكوني والشخصي فإنه يذكرنا جميعاً بضرورة تقبّل الوحش الذي يعيش بداخل كل منا، والذي قد تعتمد عليه صحتنا العقلية وخلاص البشرية.

تتعاطى الرواية منذ الجملة الافتتاحية مع حدث عبثي مسرف في اللاعقلانية يؤكد بذاته سير الأحداث في عالم فوضوي عابق بالعشوائية؛ فالواقعة العبثية المتجسدة باستيقاظ بطل الرواية غريغور سامسا ليكتشف أنه تحوّل إلى حشرةٍ عملاقة، على نحو يتخطى حدود الطبيعة، يُكسِب الحدث التحولي أهمية خارقة، ويضفي على العبثية عدم التطرق بالمطلق إلى مسوغ عقابي أدى لهذا المصير، والتعامل مع الأمر وكأنه مجرد مرض عادي. وتجتمع كل تلك العناصر لمنح الرواية وقعاً إضافياً من العبثية وتصوّر عالم يسير بمنأى عن أي نظام يحكم بالانضباط والعدالة.

عشوائية

وتصعّد ردود أفعال مختلف شخصيات الرواية من إحساس العبثية، لاسيما وأنها تتسم بعشوائية مماثلة لفعل التحوّل المسخي ذاته. غريغور نفسه لا يرتعب إلا من فكرة مواجهة متاعب في العمل، وليس من إدراك حقيقة تحوّله الفيزيولوجي، حتى إنه لا يقوم بأية مساعٍ لتحديد السبب ومحاولة إصلاحه. أما شخصيات الرواية فتتعامل عموماً مع الواقعة على أنها شيء غير اعتيادي ومقرف لكن ليس مرعباً أو مستحيل الحدوث، ويركزون بمعظمهم على مسألة التكيّف بدلاً من الهرب من غريغور أو محاولة علاجه.

أما أفراد العائلة فلا يسعون وراء أي مساعدة أو نصيحة بل يبدون أكثر ميلاً للشعور بالعار والقرف من الصدمة. ولا تبدي الخادمة أي تعجّب لدى رؤية غريغور بل مجرد انزعاج من نظافته وعبثه بترتيب المنزل. وتسهم ردود الفعل غير الاعتيادية تلك في زيادة عبثية «المسخ» بقدر ما تلمح بأن الشخصيات تتوقع إلى حدٍّ ما أو لا تشعر بالدهشة بالحدّ الأدنى حيال العبثية التي تعصف بعالمهم.

تباين

ويعمل تحوّل غريغور على تبديل مظهره الخارجي بالكامل، لكنه يترك عقله على حاله، الأمر الذي يخلق نوعاً من الشقاق وغياب التناغم بين العقل والجسد، وإقامة التسوية بين الجزأين. ومع بدء تعوّد غريغور على جسمه الجديد، يأخذ عقله بالتغير تباعاً وفق احتياجاته الجسدية، لكنه يعجز مع ذلك عن إحلال التناغم بينهما. وينزلق شيئاً فشيئاً نحو التصرف كحشرة فيعشق الأماكن المعتمة الضيقة كتلك تحت أريكته، ويستمتع بالزحف على الجدران والأسقف.

ولا تختفي بالرغم من ذلك إنسانية غريغور بالكامل، مما يجعله يشعر بشيء من التضارب الذي يبلغ ذروته مع نقل أخته للأثاث من خارج غرفته. ويوافق غريغور بالمبدأ على الفكرة لما توفره له من مساحة أكبر للتنقل، لكن عند إدراك أن الممتلكات التي كانت تمثل حياته السابقة كبشري تزوّده كذلك بالارتياح العاطفي يقف هنا أمام خيارين يدرك معهما أنه يستطيع الحصول على الراحة الجسدية والنفسية معاً ولا بدّ من التخلي عن أحدهما، ويختار بعد الإدراك بعجزه عن استعادة إنسانيته الراحة النفسية والتعلق بيأس بلوحة المرأة ذات الفرو على الحائط.

حواجز نفسية

خاضت عائلة غريغور عقب تحوّله صراع مشاعر تتخبط بين الشفقة والنفور منه. وعملت أخته ووالدته على مساعدته، ورأف الوالد الذي بالرغم من مهاجمته مرتين بحاله ولم يقترح مطلقاً التخلص منه. إلا أن الضغوطات التي ولّدها وجود غريغور قضت على مشاعر التعاطف العائلي.

وتمثلّت المضاعفات الأكثر صعوبة التي تمخّضت عن تحوّل غريغور في المسافة النفسية التي خلقتها بينه وبين المحيطين به. وقد سلخه التحوّل فعلياً وعاطفياً عن أفراد عائلته وعن الإنسانية عموماً فيما يسميه «السجن». لكن تتابع أحداث القصة يظهر أن شعور الغربة قد سبق في الواقع عملية التحوّل، لاسيما وقد تأمل غريغور في صباح تحوّله فراغ حياته وسطحية العلاقات التي يعيشها بفعل عمله كتاجر دائم التجوال.

سيرة ذاتية

وتعتبر الفكرة الأفظع ربما التي تظهرها «المسخ» في أن العلاقات الأجمل بين الأشخاص قد تكون مبنيّة على وهم. وتواصل مسألة الهوية لعب الدور المحوري الأبرز في الرواية، حيث يستحضر كافكا الإشكالية بطرح سؤال: «هل هو نوع من الحيوانات التي تترك الموسيقى فيها أثراً؟» ولعل أفضل ما يعرّف غريغور هو انتماؤه للعالم ما بين مملكتين، وإن حالة القلق المضنية التي يعانيها تعكس مصير اللاانتماء.

يسهل كثيراً النظر إلى غريغور على أنه دراسة سيرة ذاتية تروي قصة كافكا نفسه. بدءاً بالأسماء واللعب على الكلمات بحيث يشابه التقطيع الصوتي في سامسا، اسم عائلة غريغور كلمة كافكا.

وتعبّر الحشرة عن الذات الداخلية الأعمق لغريغور، الرافضة للتعرض للحياة المزرية التي عايشها بطل الرواية خلال سعيه للحصول على المال. كما تمثّل كل نواحي الوجود التي تقع خارج إطار الوصف بتجاوزها للتصنيفات العقلانية والتجريبية.

ولهذا نجد كافكا شديد التعنّت حيال عدم إعادة إنتاج الحشرة بطريقة تقليدية لدى نشر الرواية. وقد راسل الناشر وأبلغه بعدم صوابية إنتاج غلاف يصوّر أي تشابه مع الحشرة لعدم جدوى التصوير الحرفي.