كثيراً ما تروي الحجارة حكايات أكثر من البشر أنفسهم، فلا ينتظر زائر إمارة رأس الخيمة حديثاً من كبار السن والرواة ليعرف تاريخ المكان وأهله، وإنما يكفيه أن ينظر إلى المعماري الحجري الراسخ في أعلى جبل قرية شمل، حيث تمتد السلاسل الحجرية، ويرفرف علم الإمارات عالياً معلناً عن حكاية يرجع تاريخها إلى القرون الوسطى، حيث كانت رأس الخيمة حينها تدعى «جلفار».

إنه بلا شك القصر التاريخي الشهير «قصر الزباء» الذي لم يتوقف البحث عن تاريخه منذ اكتشافه حتى اليوم، فعلى الرغم من حجم الوثائق والمعلومات التي تؤكد تاريخ القصر، وبنيانه في فترة حكم جلفار «من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر الميلادي»، إلا أن الحكاية الشعبية تتنامى وتأخذ أبعاداً أسطورية تنسب القصر إلى حكم ملكة سبأ حتى بات القصر يعرف باسم «قصر ملكة سبأ».

سيرة المكان

لا ترد سيرة المكان الإماراتي القديم، وتاريخ المكان وأهله، إلا وكانت حكاية «قصر الزباء» ماثلة بكل ما تفتحه من حكايات على الجذور التاريخية للمكان الإماراتي، فهو القصر الإسلامي الوحيد في الإمارات، وهو الشاهد الأبرز على فترة حكم جلفار، إذ ترجح الدراسات أن القصر كان مكان إقامة الحاكم، فالمدينة في تلك الفترة كانت الأكثر شهرة وازدهاراً من حيت النشاط التجاري في منطقة الخليج الأدنى بأكملها.

يكشف موقع القصر وأسلوب معماره عن نبوغ العقل الإستراتيجي الحربي لأهل المكان، والسلطة الحاكمة في تلك الفترة، إذ يقع القصر على تلة صخرية مرتفعة تطل على منطقة شمل، فتظهر سهول المنطقة المحيطة كلها أمام قاطني القصر، ليبدو المكان مثالياً لأغراض الدفاع، ومناسباً للسكن والمعيشة لما يتمتع به من مناخ بارد وحصين.

لا يشكل القصر علامة تاريخية بارزة في المكان وحسب، وإنما يكشف في الوقت ذاته عن خزانات المياه التي شيدها أهل المكان لتجميع مياه المطر، إذ عمل فريق من الخبراء المتخصصين الألمان خلال مراحل الكشف عن آثار القصر على ترميم واحد من الخزانات المعروف بخزان المسقوف، وهو واحد من ثلاثة خزانات كبيرة يمكن لزائر المكان الوقوف عليها.

شهادة تاريخية

لذلك يعد مكان القصر وما يكشفه من معالم رغم حجم الهدم والضرر الذي تعرضت له، شهادة تاريخية حية على نمط الحياة الذي عرفته جلفار، حيث الأسلوب المعماري للقصر يكشف الكثير من المعلومات عن سكان القصر، وكذلك الخزانات المصممة لتخزين مياه الأمطار، فالعقول التي تلجأ إلى الخزانات المائية، تبحث عن الاستقرار والرسوخ، وتكوين الحضارة، على عكس تلك التي تتنقل وفق تقلبات الجو والجغرافيا بحثاً عن الماء والكلأ.

آثار وأطلال

ظلت الطريق إلى القصر عسيرة وصعبة نظراً لموقعه على قمة جبل، وبسبب انحدار الطريق إليه، حتى أمر الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، رحمه الله، حين كان رئيس دائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة، بتشييد درج مخصص للوصول إلى قمة الجبل، والإطلاع على آثاره وأطلاله، فشيد الدرج على النمط الأصلي للعصور الوسطى، ليتناسب مع الشكل المعماري الكلي للقصر.

ويمر الزائر في نهاية درجات القصر على بقايا جدار كان في وقت من الأوقات المدخل الوحيد للهضبة التي يقوم عليها القصر، فمن ذلك المكان يمكن مشاهدة أول خزّان من مجموعة الخزّانات الثلاثة الكبيرة التي بنيت لتخزين مياه الأمطار..

وبمتابعة المسير، يمكن رؤية الجزء الطبيعي من الهضبة، حيث تحتوي المنطقة الغربية باتجاه واحة النخيل على بقايا القصر، في حين يضم الجزء الأكبر من المنطقة الغربية بقايا بنايات عدة تحتوي كل منها على غرفة واحدة، تتصل بالجدار الدفاعي الذي يسير بمحاذاة حافة الهضبة، ورغم أنه لم يتبق من معمار القصر سوى الأساسات، إلا أن تلك الأساسات توفر ما يكفي من معلومات عن طريقة السكن في العصور الوسطى لأهل جلفار.

Ⅶنوافذ ماثلة بكل ما تفتحه من حكايات على الجذور التاريخية

Ⅶيكشف عن خزانات المياه التي شيّدها أهل المكان لتجميع مياه المطر

Ⅶتتجلى المعالم الحضارية في مجمل الاكتشافات التي ظهرت على هامش القصر

معالم

تتجلى المعالم الحضارية للقصر وسكان المنطقة في تلك المراحل التاريخية في مجمل الاكتشافات التي ظهرت على هامش القصر، ففي في عام 1973 توصلت البعثة العراقية التي نقبت عن الآثار في رأس الخيمة إلى وجود مجرى مائي كان يصل من البحر والمنطقة الواقعة وسط القصر، حيث وجد الباحثون ترسبات بحرية دلت على ذلك، إلى جانب أن عدداً من المصادر الأجنبية التي توقفت عند المكان ذكرت القناة المائية التي تمتد من الخور إلى القصر بطول يصل إلى ميل أو ميلين.