شواهد ودلالات آثارية كثيرة تبين مدى أهمية الجمل في حياة الناس بالمنطقة قديماً. إذ عُثر في الفاو (القرن 3 ق.م. - القرن 3 م.) في جنوب غربي الرياض بالمملكة العربية السعودية، على كثير مِن عظام الجمال وعلى مجموعة مِن المواد الدالّة على استخدام الجمال في هذه البلدة العربية المشهورة.
وفي موقع ثاج بالمنطقة الشرقية في المملكة، التُقِطت دمى لرؤوس جمال مزخرفة بزخارف محزّزة على الرقبة، وتمثال لبدن جمل رافع ذيله على ظهره، وتمثال لجمل وهو على هيئة العدو حيث القوائم ممتدّة إلى الأمام والخلف..وكذا في عدد مِن المواقع بدولة الإمارات، مثل: رميلة والدور. كما انتشرت في مناطق واسعة مِن شبه الجزيرة العربية رسومات صخرية (غير مؤرّخة) تصوّر الجمال في أوضاع وأشكال متعدّدة اُكتُشِفت في مواضع عديدة، من بينها: منطقة القصيم ومنطقة حائل ووادي فاطمة وشمال شرق تبوك ومنطقة تيماء ووادي العلا ومنطقة مدائن صالح.
تنقيب
اكتشفت البعثة الدانماركية في موقع المزروعة على بُعد 23 كم جنوب غربي الدوحة في قطر تلّين آثاريّيْن عام 1961، وقامت بالتنقيب فيهما. واتّضح أنّهما يشتملان على مجموعة مِن القبور تحتوي على بعض الهياكل العظمية البشرية وفخاريات وبعض المعثورات الصغيرة.
وفي الجهتين الجنوبية والجنوبية الغربية لأحد القبور البشرية وُجد قبران لجملين: الأوّل على هيئة الجلوس، مقدّمته في الناحية الشمالية الغربية مِن القبر، بينما الرقبة موجودة بالقرب مِن جدار القبر. والرأس والفك السفلي في الأعلى.
والثاني: مؤخّرته في الناحية الجنوبية مِن القبر، وبقيّة الأجزاء في الوضع نفسه للجمل الأوّل. وفي موقع بات في سلطنة عمان وُجد قبر لجمل، مؤخّرته باتجاه الشرق ورأسه نحو الشمال الشرقي، وقوائمه الأربعة مثنية.
وكذلك في موقع سمد (10) عُثر على هيكل عظمي لجمل ضمن مستوطنة تعود إلى فترة ما قبل الإسلام. وفي موقع جد حفص أو جنوسان بالبحرين عثرت بعثة التنقيب الدانماركية عام 1954 على هيكل لجمل بدون القوائم.
وفي الظهران بالمملكة العربية السعودية اكتُشِفت ثلاثة قبور لجمال في مدافن بـ/4 و بـ/5 و بـ/17، وكانت فيها عظام الجمال محروقة ومبعثرة. وفي اليمن عثر المنقّبون على عدد مِن قبور الإبل في موقعين، هما: ريبون والبليس.
عادات
ارتبط دفن الجمال في قبور خاصّة بمعنى دينيّ معيّن، وكان لهذا الحيوان لدى عرب الجاهلية مكانة عالية يدلّ عليها الشعر والأخبار والروايات المتعدّدة والكتابات والنّصوص. إذ عَبدَت قبيلة بكر سقباً، وهو ولد النّاقة. ورُوي أنّ قبيلة تميم أقبلتْ في حربها ضدّ بكر بن وائل ببعيرين مجلّلًّيْن مقيَّديْن، وجعلوا عندهما مَن يحفظهما وتركوهما بين الصّفّيْن. وقالوا لا نفرّ حتى يفرّ هذان البعيران.
وعُرف هذا اليوم بيوم الزّوْرَيْن نسبة للبعيرين. ويُذكر أيضاً أنّ ناقة أبي دؤاد الإيادي المعروفة بالزّبّاء كان يتبرّك بها الناس. وعرف العرب في جاهليّتهم «سابقة الحاج». وكان أحدهم يقول إذا حضرته الوفاة لولده: «ادفنوا معي راحلتي حتى أحشر عليها، فإن لم تفعلوا حُشرت على رجلي».
وهكذا كانوا يربطون النّاقة معكوسة الرأس إلى مؤخّرها مما يلي ظهرها أو مما يلي كلكلها، ويأخذون وليّة فيشدّون وسطها، ويقلّدون عنق النّاقة ويتركونها عند القبر. ويسمّون تلك النّاقة «البليّة» والخيط الذي تُشدّ به «الوليّة».
وأشار عدد مِن الشعراء الجاهليين إلى البليّة:
الجميح الأسدي:
أمٍّ مَن لأشعث لا ينام وأرملٍ
مثل البليّة سَمْلةِ الهِدْم
وبِشر بن أبي خازم:
أموناً كدكاّن العبادي فوقها
سنام كجثمان البليّة أتْلع
وقال عمرو بن زيد الكلبي:
أَبُنيّ زوّدني إذا فارَقْتَني
في القبر راحلة برحل قاتر
للبعث أركبها إذا قيل اظعنوا
مستوسقين معاً لحشر الحاشر
مَن لا يوافيه على عيرانة
والخَلْق بين مدفّع أو عاثر
وفي غزوة بدر الكبرى لمّا خرجت قريش لقتال المسلمين بعثتْ عمير بن وهب الجمحي لمعاينة جيش المسلمين، وحزر أعدادهم رجع إليهم وقال لهم: «قد رأيتُ يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت النّاقع...». ويبدو مِن خلال الأبيات الشّعرية السّابقة أنّ العرب لا يزالون في عالم المحسوس البحت، على الرّغم مما يُفهم أنه كان بعضهم يؤمن بالبعث بعد الموت. وأعتقد أنّهم كانوا يعنون الركوب المادي الدنيوي المجرد مِن عالم الخيال. أو ربما كان فِعلهم هذا كنوع مِن أنواع الفخر وتكامل الشخصية وعلو الشأن وبروز النزعة العسكرية والقيادية عند بعضهم.
العَقْر والبليّة
«العقر»: ضرْب قوائم الدابة، وهو يشمل الإبل وغيرها. والبلية كما مرّ تفسيرها تعني النّاقة (أو البعير)، تُعقل بالقرب مِن قبر الشخصية المتوفاة، ويحفر لها حفرة توضع فيها، ولا تُطعم ولا تُسقى حتى تموت. وأما العقيرة فهي ما ذُبح للميّت مِن بقرة أو ناقة أو شاة.
هي بالتالي غير مخصوصة بالإبل. وفي وصيّة الخليفة أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان، رضي الله عنهم، حين ودّعه وهو في طريقه لفتح الشام، قال ضمن الوصيّة: «ولا تعقرنّ شاة ولا بعيراً إلا لِمأكلة». والعقر دليل الكرم والسّخاء والجود حيث كان الرّجل النّبيل السّيّد يعقر إبله إكراماً لضيوفه. ويُعرف مَن يعقر البعير أو الإبل بالرّجل المِعقَر.
ويقول حاتم الطّائي:
إِبِلي رهن أن يكوس كريمها
عقيراً أمام البيت حين أثيرها
«الكوس»
«كاس البعير» كوساً إذا مشى على ثلاثة قوائم وهو معرقب. وكاس العقير كوساً إذ سقط على رأسه. و«الكوس» عقر إحدى قوائم البعير. وكانت العقيرة تخصّص لتأكل مِنها السّباع والطّيور لأنّ صاحب القبر كان جواداً يُطعم الأضياف ويكرمهم في حياته، ولهذا اعتقدوا بوجوب الإطعام بعد مماته كمجازاة له على كرمه في حياته.
وكان مِن عادة العرب الجاهليين في النحر على القبور أنهم كانوا يبللون تلك القبور بدم الحيوان. وبما أن الإبل هي أَنفَس أموال العرب لذا كانوا ينحرونها على قبور كرمائهم تبياناً بأنها قد هانت عليهم لِعِظم المصيبة وعلو مكانة المتوفى. ومِثْل هذه الأفعال مِن قَبيل المباهاة والسمعة والفخر.
مكانة وعادات
كان عمرو عمرو بن لُحيّ الخزاعي، ذا ثروة طائلة، وكانت أعداد إبله تبلغ 40 ألف رأس، ولذا فقأ عيون عشرين جملا مِنها، عن كل ألف جمل. وكان قوله وفعله في العرب كالشّرع المتّبع، لِشرفه فيهم ومحلته عندهم وكرمه عليهم.
فابتدع لهم أشياء في الدين فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً. فكان العرب يعمدون إلى قطع آذان الإبل ويشقون جلودها كناية عن تحريمها على الأهل والأقارب وإيقافها على المعبودات. كما ارتبطت الإبل بعادات جاهلية أخرى في النذور والنحر مثل «القُريرة» أو «النقيعة»، وهي ناقة تؤخذ مِن المغانم قبل قسمتها فتنحر وتُطبخ وتُؤكل.
12
عُثر على قبر لناقة في منطقة «أف»:«F» بموقع الدُّور في أم القيوين، والمؤرّخ إلى ما بين القرنين الثاني ق.م. والثاني م. وأيضاً، في موقع مليحة عُثر على 12 قبراً لجمال بالقرب مِن قبر صاحبها. ويوجد معها كذلك قبر لحصان. وتؤرّخ هذه القبور بالفترة في ما بين القرنين 3 ق.م. والـ 2 م.
640
عُثر في موقع الإميلح بين الذيد والشارقة، في القبر (4) على هيكل عظمي لجمل. وأظهر تحليل ما تبقّى في معدته عن طريق كربون 14 المشع، أنّه يعود زمنيّاً إلى ما بين عامَي 640 و680 م. وبالقرب مِن قبر الجمل اكتُشِف قبران آخران تدلّ محتوياتهما (السيفان الحديديان) على أنّهما لشخصين محاربين. كما عثرت فرقة التنقيب المحلّيّة في الشارقة على هيكل عظمي لجمل في موضع دبا.
اعتقاد
كانت تُعقَر الإبل عند العرب في الجاهلية، ولمكانتها الرفيعة، على قبور القادة والفرسان المشهورين، ذلك مثل: ربيعة بن مُكدّم بن عامر، أحد فرسان مضر.. وفارس العرب في زمانه.
ويقول ابن عبد ربّه عن ربيعة بن مكدّم: «كان يُعقر على قبره في الجاهليّة، ولم يُعقر على قبر أحد غيره». ومن بين الأخبار في الشان أيضاً، أنّ الغسّانيّين عقروا مئات الإبل عند وفاة أحد أمرائهم. وكان يقصد بالعقر-طبقاً لمعتقداتهم الوثنية- استرضاء أرواح الأموات التي تطوف في الكون ولها المقدرة على الإيذاء.
صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان تصدر كل خميس