كان خشب الجندل رائجاً في المنطقة في العقود الأولى من القرن العشرين، ووصلتْ به الحال إلى أن أصبح الخشب المصاحب للعمارة والبناء في عموم منطقة الخليج العربي.
ومن خلال مقابلاتنا مع كثير من الرواة يمكن أن نستخلص عدّة أمور ومسائل تتعلّق بهذه النّوعيّة الفريدة من الأخشاب.. ومن ثمّ نتطرّق في البحث، إلى استعمالات هذه الأخشاب في العمارة التقليديّة، وبعدها نناقش التفسيرات المحتملة للاسم ومعانيه.
الجندل له غابات متشابكة ينمو فيها في شرق أفريقيا، ولهذا فهو في الأصل أخضر اللون لا أسود. وكانت تُجمع كلّ عشرين جندلة في ربطة واحدة تسمّى كورية أو كورجه، وهي في الأصل لفظة سواحيليّة (korja)، وكانت سفينة البوم آنذاك تحمل نحواً من 200 أو 300 كورية.
وكانت بعض الأبوام الضخمة والسفن الكبيرة تحمل حوالي 10 آلاف كورية. وهذا يدلّ على رواج تجارة الجندل، وكثرة الأعداد المعدّة للتصدير لمنطقة الخليج العربي ما يشير إلى استهلاك المنطقة أعداداً هائلة من هذه الأخشاب.
«بمبا ولامو»
وكان الجندل يُجلب من الجزيرة الخضراء، وهي جزيرة بمبا، الواقعة إلى شمال زنجبار، ومن جزيرة لامو، وكانوا يسمّونها «سيبمورنقا»، أي عيون أو عين الأسد، وهذه كلّها خيران عظيمة.
وكان بحّارة الإمارات وغيرهم يأتون إلى مكاتب الجمارك فيخبرونهم كتابةً، أنّهم بحاجة لعشرين عاملاً، فيتولّى المكتب تدبير هؤلاء العمّال.
وقبل البدء في قطع الأشجار يتمّ الحصول على إذن القيام بذلك من سلطة الجمارك، ويتمّ الحساب أو الدفع حسب الكورية لدى المسؤول الموجود عند مداخل الخيران العظيمة. وكانت أشجار الجندل تتعلّق فيها القرود وتكثر في مستنقعاتها التماسيح وكثير من الحيوانات، ولهذا كان يتولّى قطع الأشجار أهالي المنطقة من الأفارقة لمعرفتهم بالمكان.
وكانت تدفع، بعض الأحيان، مبالغ ماليّة معيّنة لبعض المسؤولين فيتساهلون في جمع الأخشاب من دون المحاسبة في عدّها بدقّة، أو أنّ بعضهم كانوا يزيدون في الأعداد دون علم سلطة الجمارك. وخلال فترة قطع الأخشاب ترسو المراكب قريباً ويبقى فيها البحّارة يأكلون وينامون، وكان العمّال ربما يقضون الليل مع البحّارة، فيجهّزون العَشاء، ويظلّون كذلك حتى ينتهوا من قطع الأخشاب المطلوبة.
معاملات دقيقة
كانت سفن الأسفار الخليجيّة تنتظر في زنجبار.. وغيرها من الجزر، حتى يدور موسم هبوب الرياح الجنوبيّة الشّرقيّة فَيُنادى حينها: «كل دارك يا غريب»، فتنطلق السفن بأنواعها وأحجامها متزاحمة، متقاربة متجهة صوب الشمالي الشرقيّ، وكانت هذه المراكب تحمل بحّارة تتراوح أعدادهم ما بين 18 و 20، ومن هنا يمكن تصوّر أعداد هؤلاء البحّارة، مع كثرة السفن، الذين كانوا يتجوّلون في زنجبار وممباسا ولامو وغيرها في موسم واحد، فيُحيون تلك الأقاليم بالحركة والنّشاط والبيع والشراء والأحاديث والأخبار.
وكان غالباً ما يتواصل مع النواخذه العديد من التجّار فيطلبون منهم مقابل نول معيّن، جلب أعداد كبيرة من أخشاب الجندل. وكانت الكورية تباع بأسعار مختلفة ربما تبلغ العشرين شلنقا أي نحو 15 روبية أو 10 روبيات.
وربما كانت الجندلة الواحدة تحسب بروبية، أو بشلنق، والكبار منها ربّما تُحسَب بشلنق ونصف. وفي وقت انتظار العودة للبلد تُرفع السفن فتُدهن وتصلّح، وتعدّ للرحلة المقبلة. وكم هي المسافة الهائلة الفاصلة بين منطقة الخليج وشرق إفريقيا، وكم كانت تجارة استيراد الجندل تساوي كلّ هذه المشقّة في الأسفار.
قياسات وتقنيات
الجندل كان من موادّ التّسقيف التي لا يُستَغنى عنها في المدن والبلدات في الإمارات وفي عموم بلدان الخليج العربية، وهي بلا شكّ نوعيّة جيّدة من الأخشاب، وكانت تتراوح أطوالها ما بين المترين والنصف والثلاثة أمتار، ومن هنا كان عرض الغرف محدّداً بما يسمح به طول الجندل، ما يؤدّي إلى تقارب الغرف في عرضها، وهذا له تأثير في تقارب الجلوس بين الحاضرين في الغرفة الواحدة. ولأهمّيّة تجارة استيراد الجندل من شرق أفريقيا فهي كانت رائجة ومزدهرة، وكانت تعيش عليها العديد من الأُسر.
وظلّت هذه التجارة مزدهرة حتى أواخر عقد الستينيات من القرن الفائت حين دخلت أخشاب المربّع ثم الألواح الخشبيّة في التسقيف التي تطلّبها استعمال مادّة الاسمنت، بعد أن كان الجندل مسيطراً لزمن طويل على العمارة التقليديّة المحلّيّة.
وكانت أخشاب الجندل، تصبغ بمادة القطران لحفظها من الأرضة ومن الحشرات، ولهذا فهي سوداء اللون في كثيرٍ من الأحيان، وكان الأهالي يتابعون دهن الأخشاب والانتباه إليها حتى لا تتغيّر وتضعف.
وإضافة إلى التسقيف، كان الجندل يُستعمل في شدّ وتقوية حيطان البراجيل، وفي الخيام الشتوية، حيث تكون الجندلة عماد الخيمة، كما تكون مرتكزاتها. كما استعملت أخشاب الجندل في صناعة الجسور الخشبّية المستعملة في عتبات الأبواب والدرايش والمداخل والمداميك. وكانت مرتكزات العرشان وأعمدتها، فهي بالتالي كانت تمثّل جزءاً لا يُستهان به من العمارة المحلّيّة.
ومن بين معاني الجندل في اللغة العربية: الحجر. وقيل: صخرة كرأس الإنسان. وأقدم ذِكر لهذه اللفظة ورد في قصّة مازن بن الغضوبة الخِطامي العماني، حين كان سادناً للصّنم «باجر»، وكان في بلدة سمائل في إقليم عمان، وسمع منه صوتاً يخبره ببعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفيه:
اقبِلْ إليّ اقبِلْ
تسمع ما لا تجهل
هذا نبيّ مرسل
جاء بحقّ مُنزَل
فآمِن به كي تعدِل
عن حرّ نار تشتعل
وقودها بالجندل
3 ق.م
«الجندل» اصطلاحاً هو أحد أنواع شجر المانغروف أو القرم، بل هو أكثرها طولاً، وأدقّها استدارة، وقد ورد ذِكر هذه الأشجار في عددٍ من المصادر اليونانية واللاتينية منذ القرن الثالث قبل الميلاد، وفيها إشارات واضحة إلى نموّها على السواحل الجنوبيّة للبحر الأحمر، والقرن الأفريقي، ثم على الساحل الشرقيّ لأفريقيا، وعلى سواحل منطقة الخليج العربي.
وورد الاسم بصيغة «الكندل»، ومن الغريب أنّ أهالي شرق إفريقيا يسمّونه: «موانزي» و«وميكاندا»، وفي المعاجم العربية ورد الاسم بصيغة: «كندلا» أو «كندلاء»، وفي بعض المصادر العربية ورد أنّ القرم والكندلا من الأشجار التي تنبت في المياه المالحة، ولا تضرّها ملوحة المياه، والشاهد هنا أنّه تمّ التفريق بين القرم والكندلا على أنّهما نوعان، وليس كون الكندلا جزءاً من القرم.
ونموّ هذه الأشجار في المياه المالحة أمر استثار الكتّاب اليونانيين واللاتينيين على اعتبار أنّ الملوحة مضادّة للأشجار النّابتة في البريّة، ولهذا خصّوها بالذِّكر وبالملاحظة. وفي اعتقادي أنّ أصل الكلمة سنسكريتي إذ لا زال هذا الاسم معروفاً في المناطق الجنوبيّة الغربيّة من الهند إلى الآن بصيغة: (Kandla)، ويعرف هذا النّوع من أشجار الجندل بــ Rhizophora mucronata.
بيئة خصبة
تنتشر أشجار الجندل عند مصبّات الأنهار في شرق أفريقيا، وهذا ما ذكره رواتنا. إذ إنهم كانوا يذهبون عند الخيران العظيمة التي يلتقي فيها الماء العذب بماء المحيط. وفيما يبدو أنّ تلك البيئة خصبة لنموّ هذه النّباتات. وهي أيضاً لها شهرة في مناطق تنزانيا وكينيا وبورندي وموزنبيق والكونغو وأوغندا ومالاوي ورواندا.
وفي اعتقادي أنّ أهالي الإمارات وعموم منطقة الخليج العربي رؤوا صلابة هذه الأخشاب وكيفية استعمالاتها في تلك المناطق، ومن هنا ظهر عندهم إمكانيّة استعمالها أيضاً في بلدانهم، وبناء عليه راجت تجارة الجندل كثيراً في عقود الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الـ20، ثم ازدهرتْ كثيراً في عقد الخمسينيات والنّصف الأول من العقد السادس، إلى أن ضعفتْ هذه التجارة بعد ذلك نظراً لِما مرّت به بلدان شرق أفريقيا من تبدّلات في السياسة والاقتصاد وظهور الدول القوميّة فيها، ثمّ ما تعرّضت له زنجبار من دمار ومآسٍ وقتل، وهذا ما يُفهم من أحاديث رواتنا الذين أكّدوا لنا أنّ عقدَي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الفائت شهدا رواجاً في الأسفار والرحلات إلى الساحل الشرقيّ لأفريقيا.
شكوى
اللافت أنه بعد أن تراجعت قيمة أخشاب الجندل في البناء في المنطقة، وبروز مواد أخرى، ظهر استعمالها في بعض المحلّات والمطاعم الشّعبيّة، لإضفاء مسحة تراثيّة على هذه الأماكن. وفي الوقت نفسه ظلّت عدد من البيوت شاخصة ببنائها وزخارفها وتصميمها وجصّها وأحجارها وجندلها وجذوعها وليحانها، تشكو جور الإهمال وتقلّب الأزمان، بعدما ازدانت مدن الساحل بهذه الأخشاب الرائعة مدّة من الدهر.
أصل سنسكريتي
اتّضح لي في أبحاثي، وإثر نقاشاتي وبحاثة مجموعة «قلعة التاريخ»، أنّه لا تفسير موحداً لـ«جندل» أو «كندل»، خاصّة أنّهما لا أصل لها في اللغة السواحيليّة أو اليونانيّة واللاتينيّة، لذا أشرتُ بالبحث إلى أنّ أصل اللفظة سنسكريتي.
أهمية
استخدم الإماراتيون ومواطنو دول الخليج العربي أخشاب الجندل لأغراض كثيرة، فإضافة إلى توظيف الجندل في السقوف، كان يُستعمل في شدّ وتقوية حيطان البراجيل، وفي الخيام الشتوية حيث تكون الجندلة عماد الخيمة، كما تكون مرتكزاتها. واستعملت أخشاب الجندل في صناعة الجسور الخشببة المستعملة في عتبات الأبواب والدرايش والمداخل والمداميك. وكانت مرتكزات العرشان وأعمدتها، فهي بالتالي كانت تمثّل جزءاً لا يُستهان به من العمارة المحلّيّة.
1965
منذ منتصف العقد السادس في القرن الفائت، لاحظنا في أبحاثنا، بروز تغيّر في مواد التسقيف، إذ قلّ الاعتماد على أخشاب الجندل، واستعيض عنها بالأخشاب المجلوبة من الهند، وهي المعروفة بالمربّع والليحان التي كانت تستعمل في التسقيف.. ومن الملاحظ أنّه بعد أن هجر كثير من أهالي الساحل مدنهم القديمة، ومنازلهم العتيقة تعرّض كثير منها للدّمار، وكان أوّل ما يؤخذ منها أخشاب الجندل التي راج استعمالها عند بعضهم كديكورات.
صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان تصدر كل خميس