إن الاهتمام بتاريخ الإمارات جزء من جهود ومبادرات صون الهُويّة الوطنيّة.. وكذا بالنسبة للدراسات المعنية برصد مفردات التطور المجتمعي وماهياتها، خصوصا وأننا نرى أنّ الحراك الاجتماعيّ له تأثير كبير على ما جرى من تطوّرات مادّيّة ومعنويّة.

وبلا شكّ فإنّ الموروث الحضاريّ للدولة كثير ومتنوّع، وهو خزّان ثريّ زاخر. وكان ارتباط مناطق الإمارات بعضها ببعض يتم عن طريق القوافل التي كانت تسير من السلع إلى دبا، ومن رأس الخيمة إلى العين، ومن الداخل إلى الساحل، وكانت تمرّ عبر الصحارى والأراضي السبخة والوديان والشّعاب والسواحل والكثبان.

وأشهر طرق القوافل هي طرق الحجّ القديمة التي تخترق منطقة الإمارات من شرقها إلى غربها، يسير فيها الحجّاج في سبل منتظمة، يقودها رجال أدلّاء ذوو خبرة، ومهارة ودراية ودُربة، فكان الطريق يبدأ من كلباء على السّاحل الشّرقيّ.

ويمرّ الركب بالفجيرة فيلتحق به مَن يرغب في الحجّ، ثمّ يمرّ الركب بالقرى الواقعة في الطريق إلى أن يبلغوا قرية مسافي، ومنها باتّجاه قريتَي المنامة والسّيجي، ثمّ ينطلق الركب غاذّين السَّير صوب الذّيد.

وتنتشر أخبار السائرين بين الأهالي في المناطق المجاورة، فينضمّ إليهم مَن أعدّ عدّته للحجّ فيلتحق بالركب النّفر والاثنان والجماعة، فيعبر الجمع الوديان والشِّعاب والسّيوح والسّهول حتى تتجمّع القوافل في منطقة مزيرع، على اعتبار أنّها مرتكز أو نقطة التقاء.

ومنها غرباً إلى الخوانيج في إمارة دبي، ثمّ إلى موضع ذباح القريب من جبل علي، ثمّ إلى موضع بوصلف قرب المفرق في إمارة أبوظبي، لتتّجه غرباً صوب موضع العجيلة، حيث تكثر آبار المياه، ثمّ تنطلق في خطّ مستقيم نسبيّاً إلى منطقة السلع وسبخة مطّي.

ويسلك حجّاج منطقة العين والبريمي الطرق المتعارف عليها نحو أبوظبي، ومنها غرباً نحو سبخة مطّي. وكان الأهالي يسلكون هذه الدروب في رحلة المقيظ من المدن السّاحليّة إلى منطقة العين.

والباطنة أو إلى مناطق المقيظ في رأس الخيمة ومسندم. فتكون هذه الدروب مطروقة، كثيرة الحركة ممّا يسهّل التواصل على النّاس أو على الأقل لا يقطع صلات الأهالي بعضهم ببعض. وهذه الدروب القديمة هي نفسها التي سلكها سكّان المنطقة في الأزمان الغابرة، وهي التي انتقل خلالها السّكّان والسلع والبضائع، وازدهر التبادل الاقتصادي في المنطقة.

تطور النقل

ثم تطوّرت الحال مع دخول السيّارات إلى منطقة الإمارات منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث أصبحت هي وسائل النّقل، والسّيّارات أو «المواتر» حسب ما تُعرَف محلّيّاً، فقد تعامل معها الأهالي كما كانوا يتعاملون مع كلّ ما هو جديد من تقنيات صغيرة وكبيرة. وكانت في بداية وجودها غريبة، عجيبة تعامل معها الأهالي بحذر لجهلهم بها وعدم معرفتهم كيفيّة سياقتها.

ثم تغيّرتْ الأحوال، وبدأ الأهالي يعون أهمّيّتها، ودورها في تيسير تواصل بعضهم مع البعض، وفي تلك الأثناء لم تكن الطّرق معبّدة، ولم تكن سهلة، وتسلك أماكن وعرة، في بيئات مختلفة.

وكانت مع ذلك تربط إمارات الدّولة، وتصل إلى سلطنة عمان المجاورة. ومع صعوبة الطّرق، ومشقّة الأسفار إلا أنّه لم يكن للنّاس بدّ من الانتقال والتّواصل والسّفر الذي مهما طال إلا أنّه ليس بطول أسفار القوافل، ورحلات الدّوابّ.

وبسبب طبيعة الأرض وتضاريس المكان، واختلاف البيئات فإنّ الأهالي اضطرّوا في البداية لاستخدام السيارات الكبيرة ذات الدفع الرباع التي تسير على مثل هذه الطرقات وفي مثل هذه التضاريس. وكانت الطرق المارّة بسِيف البحر تنتظر فترة انحسار المدّ حتى تتمكّن السيارات من المرور، وهي محمّلة بالمسافرين والأمتعة والأغراض.

وبرز في هذه الرحلات والطرقات رجال من شتّى إمارات الدّولة امتهنوا الأسفار والرحلات والانتقال، وخبروا الطّرقات والدّروب، بل وعلموا كيف يصلحون آلياتهم وسيّاراتهم أثناء انقطاع السّبل، وتعطّل المحرّكات، وإصابة الإطارات.

وكانوا يتوقّفون في تلك الدروب ويبدّلون الإطارات ليس معهم إلا معاون أو اثنان. ورسم هؤلاء السائقون المناضلون طرقاً جديدة للآليّات الجديدة ربما تختلف بعض الشّيء عن طرق القوافل المعتادة.

دراسة الطرق

ومثل هذه الطرق لم يسبق توثيقها في دراسة علميّة متكاملة، فلذا يتطلّب الأمر القيام بهذا العمل الميداني، راجين من الله تعالى أن يوفّقنا ويعيننا على إنجازه على أكمل وجه. وهذه الدراسة تساهم في توثيق جهود الآباء وحفظها، وتثبيت أدوارهم في الحياة في خمسينيات وستينيات وبدايات عقد السبعينيات من القرن الماضي.

وهي إضافة علميّة تأريخيّة إلى التّاريخ الاجتماعي والاقتصادي للإمارات في تلك الفترة، إذ كان لهؤلاء الأشخاص أدوار مهمّة في توصيل المسافرين والأغراض والسلع في ظروف صعبة.

أبطال الدروب

يتطلّب لإتمام دراسة الطرق القديمة إجراء مقابلات مباشرة مع مَن بقي حيّاً من أبطال الدّروب أولئك، ليتحدّثوا عن أدوارهم وتعبهم ونصبهم وكدّهم والصّعوبات التي واجهتهم، والطّرقات التي سلكوها، وكيف تعاملوا مع الأعطال ومشكلات الدّروب، وأوضاع البيئات التي يمرّون بها، والأهالي الذين يسافرون معهم، وهم أقدر النّاس على الحديث عن شؤونهم وأحوالهم وكيفيّة مواجهتهم لظروف الحياة.

وعن طريق هؤلاء السائقين يمكننا أن نتعرّف أنواع السّيّارات التي كانوا يستعملونها في تلك الفترة، ومن أين كانوا يتحصّلون عليها، وما هو مقدار كدّهم وربحهم، والأيّام التي كانوا يقضونها مترحّلين متنقّلين. ولِمَ فضّلوا هذا العمل على غيره؟ ومَن كان يعمل معهم؟ ومَن كان معاوناً لهم في أسفارهم؟

والبضائع والسّلع التي كانوا يحملونها. إضافة إلى تلمّس مكانتهم أنفسهم في المجتمع المحلّيّ الذي علموا فيه، وكيفية تواصلهم مع الأهالي، وكيف كانوا يقبضون أجرة توصليهم للنّاس؟ وهل كانت هناك نوعيّات للتوصيلات بمعنى التوصيل الفردي والتوصيل الجماعي؟

وكيف تسنّى لهم الجمع بين مهنة سياقة السيارات ومهن أخرى كانوا يقومون بها لإعالة أُسرهم وأنفسهم؟ وهل كانوا يقضون أوقاتاً للراحة والترفيه، أم إن حياتهم كلّها جدّ ونشاط وعمل متواصل؟

وثائق ومستندات

يحتاج المشروع البحثيّ للطرق القديمة إلى تتبع الوثائق المختصة بالمواصلات والتنقل في دولة الإمارات، عبر تصوير ما لدى السائقين الذين امتهنوا تلك المهنة منذ نشأتها الأولى في المنطقة، من وثائق ومستندات كانوا يحملونها آنذاك، إضافة إلى ما لديهم من صور إن كانوا يحتفظون بها. وحفظ مثل هذه الوثائق أمر ضروريّ لحماية الإرث الكتابي القديم للدّولة.

وهم بلا شك كانوا حريصين على حمل مثل هذه الوثائق خاصّة أثناء عبورهم للحدود بين إمارات الدولة من جهة، وبين سلطنة عمان. ومَن يساهم في هذا البحث الميداني من الشّباب والشابّات، يتدرّبون على العمل الميداني، والبحث في المصادر، وتحليل البيانات، ورسم الخرائط، ومقابلة الرواة والتعامل مع النّاس.

فريق عمل

يتطلب البحث الميداني حصْر الرواة من كبار السّنّ الممارسين لهذه المهنة، وعدد من الأشخاص الذين سبق لهم السفر مع هؤلاء السائقين لإجراء المقابلات معهم وإعداد قائمة بأسمائهم، والقائمة الأوّليّة، ويتخلّف في الذاكرة أسماء من أمثال: خليفة الميرفي، ومحمد عيون.

وعلي بن سبت، ومحمد حسن، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن عسكر، وصالح أمين، وسعيد بوزنجال، وصالح بن أحمد حنبلوه، وإبراهيم البلوشي، وحي الشريف.

والبحث عن المزيد من هؤلاء المكافحين، روّاد الدروب، ومرتادي الطرقات، الدّؤوبين، الصابرين. وجميع هؤلاء كان لهم حظّ وافر من العمل في هذا الميدان الحيوي الذي قضى فيه بعضهم ردحاً من الزمان، وهم بالتالي لديهم ذِكريات كثيرة حول تلك الفترة. كما يتطلّب تجهيز فريق عمل من الجامعيين الميدانيين لتغطية كل مناطق الدولة، إضافة إلى تصوير الدروب وتوثيقها.

خريطة متكاملة

يساهم السعي لاستكمال دراسة الطرق والمواصلات عبر التاريخ في رسم خريطة متكاملة لدروب السّيّارات عبر دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، ومقارنة ذلك بطرق القوافل القديمة، والشوارع الحديثة. وهذا يفيد في استكمال الصورة النّمطيّة للمواصلات في الدّولة.

ويقدّم للقرّاء والمتخصّصين على حد سواء تأريخاً موثّقاً للمواصلات القديمة في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين. وهي بلا شكّ تساهم في تقديم صورة متكاملة لوسائل الانتقال والنّقل في تلك الحقبة.

*  الموروث الحضاريّ للدولة كثير ومتنوّع وهو خزّان زاخر بتأريخ وحكايات نجاحات الآباء

* دراسة تفاصيل تطور الحراك الاجتماعيّ لها تأثير كبير مادياً ومعنوياً وعلى الشباب لعب دور أساس في العمل التوثيقي الميداني

* طرق القوافل هي أشهر طرق الحجّ القديمة التي تخترق الإمارات من شرقها إلى غربها وتعتبر من التراث الحضاري

* دخول السيّارات منذ خمسينيات القرن الماضي شكل مرحلة مفصلية في حركة النقل