نتابع في صفحتنا هذه ما بدأناه في العدد السابق من الحديث عن كتاب «تاريخ المستبصر» لابن المجاور، الذي خلصنا إلى توثيق نسبه، وأنه أبو بكر بن محمد بن سعود بن علي بن أحمد ابن المجاور البغدادي النيسابوري، الذي عاش في القرنين السادس والسابع الهجريين.

مقدمة ابن المجاور

تتميّز مقدمة ابن المجاور بإيقاع نثريّ متناغم أو بما يعرف بالسجع في اللغة العربية الفصحى، وقد أضاف بصمة جغرافية مختلفة في النصّ. ويخبرنا عن ولعه بفنّ التاريخ، أو كما يمكن أن نسمّيه بالتاريخ الجغرافي أو الطبوغرافي، إذ يقول: «إن فن التاريخ، ولا سيما ما يتعلّق بمعمورة الأرض، وعروض بلادها وأطوالها وأوضاع مبانيها ومسافات مغانيها وتصوير أقطارها وتبيين أحوال أمصارها من أبدع الفنون وأغربها وأبعدها غوراً وأعجبها».

ثم يعرض لنا المدخل التاريخي لكتابه، ويبدو أنّ الأسلوب الرفيع للمؤلِّف قد ضلّل القارئ بحيث اعتبره من أحد المراجع الجغرافية كسائر الأعمال العربية التاريخية التقليدية، وربما قد يصفه البعض ضمن ما يعرف بالأدب العربي الجغرافي ما بعد الكلاسيكي.

ولكن البروفيسور سميث يميل للاقتراح بأنّه قد نقل مقدّمته أو على الأقل استلهمها من مصدر آخر (كما كان ينقل بعض مفردات الآخرين) أو علينا أن نعترف بأن ذلك في الواقع كان تصوّره الخاصّ النابع من نوايا مثالية في إنتاج عمل مرجعيّ جغرافيّ ضمن القالب التقليدي، على أنه يميل إلى كونه تاريخيّاً أيضاً، وهي نيّة لم يستطع تحقيقها بعد أن أنجز عمله.

فرسخ ابن المجاور

يمكن تعريف كلمة «فرسخ» التي استخدمها ابن المجاور في قوائم دروبه بأنها مقياس للمسافات التي يقطعها مشياً على الأقدام بالساعة. وربما يشير إلى 4.42 أميال عن كل فرسخ، وهو معدل مرتفع.

أسماء الأماكن في النّص

تجاوز عدد أسماء الأماكن المذكورة في هذا العمل 1200 اسم، يقع معظمها جنوب وغرب شبه الجزيرة العربية. ولسوء الحظّ قد يلتبس علينا قراءة العديد منها. والعديد أيضاً لا يمكن اقتفاء أثرها في المصادر الجغرافية الأخرى.

الزراعة ومتطلباتها

إلى جانب اهتمام ابن المجاور بالتجارة وبالناس الذين التقى بهم أثناء رحلته، يهتم عادة بتصنيف إنتاجهم الزراعي وطعامهم. وقد سرد لنا أيضاً قائمة بالآبار ومدى ملوحة كل منها، أو على الأقل صنّفها فيما إن كانت عذبة أم آسنة، وقد ورد ذكر الريّ عن طريق الفيضانات، إلا أنه نادر جدّاً، ويمكن استنتاج أن غالب المحاصيل الزراعية يتم ريّها عن طريق الآبار، وللأسف لم يرد أي ذكر لزراعة المدرّجات.

وقد وضع قائمة تضم محاصيل الحبوب (كالقمح والشعير والذرة والدخن وغيرها) والفواكه، خاصة الحمضيات والخضراوات مثل: الخيار والفجل والكراث والثوم الصيني المعمر. ومن خلال هذه المحاصيل المتنوّعة يمكن وصف الأطعمة التي يأكلها الناس هناك.

فمثلاً هناك عدة أنواع من الخبز المصنوع من الحبوب المختلفة، وأنواع من السمك، لذا فإنه من غير المستغرب أن يستخدم سكان السواحل السمك في صنع (الهريس) بدلاً من اللحم كما هو معتاد، وقد كتب ابن المجاور عن هذا الطبق مراراً.

الملابس والعادات الاجتماعية

يتداخل هذان المفهومان بعضهما مع بعض في نصّ ابن المجاور، وفي الواقع يميل الكاتب هنا إلى التأكيد على وجود نمط لباس غريب أو غير معتاد على الأقلّ. وقد دوّن أيضاً عن أناس في الجبال يلبسون الجلود لتقيهم برد الشتاء، وغالباً ما يحب إثارة القارئ بوصفه بعض الأزياء الغريبة والمضحكة. وتحدّث عن ملابس النّساء هناك فوصفها بأنّها جلدية ومستطيلة الشكل بها فتحة في منتصف الرأس ودون حزام، وهو لباس محتشم، وثمة زيّ نسائي ذو أكمام أيضاً يسمّى «فتوبي» وهو زيّ فضفاض جدّاً.

وتمثّل مثل هذه العادات الاجتماعية التي يصفها لنا ابن المجاور أحد أكثر الأمور الممتعة والمسلّية في الكتاب. وفي الحقيقة لم يكن السرد الجريء لبعض السلوكيات، الذي سلّط ابن المجاور الضوء عليه، سوى إضافة مسلّية ليعبّر عن روح الدعابة لديه.

وقد يخطر على أذهاننا أصدقاء ابن المجاور وهم يتحلّقون حوله ويستمتعون برفقته وبالقصص التي يؤلِّفها. ويمكن للمرء أن يتصوّر إلى أيّ مدى يمكن لقصصه أن تصبح أكثر فأكثر غرابة وبذاءة في كلّ مرةّ تعاد فيها.

ولنكون منصفين لربما يمكننا القول بأنّه جزء من مساعي ابن المجاور لفهم الناس من خلفيات وثقافات وانتماءات دينية مختلفة (بما في ذلك غير المسلمين) ولا ينبغي إعطاء حكاياته المقتبسة من تعليقاته الاجتماعية أكبر من حجمها.

الخرائط والمخطّطات والرسوم البيانية

ثمة ثلاثون خريطة أو مخططاً للمدن الواردة في النّصّ، وهي تشمل: مخطّطات مكة، وجدّة، وزبيد، وجبل حريز، وعدن، وتعز، والجند، ومأرب، وصعدة، وبير العصيمية، وظفار، وقلهات، وخريطة سوقطرى. إضافة إلى اثنين من الرسوم البيانية لتوضيح ملامح النّصّ: قبعة مدببة ولوح خشبيّ يجره الثور لحراثة الأراضي الزراعية، ومقاعد تستخدم للاستلقاء والاسترخاء.

وينظم ابن المجاور على غرار الأدب الجغرافي العربي الأول، كتابه حول سلسلة من المسارات؛ كل منها يأخذ القارئ من مكان إلى آخر عبر عدد من المراكز والمحطّات المحدّدة، مع ذِكر المسافات بين تلك المواضع المعطاة في الفرسخ الواحد. إضافة إلى ذلك، يصف الأماكن ذات الأهمية الخاصّة، وتركز تلك الأوصاف على المباني التاريخية والجدران الدفاعية والحصون والأسوار وما إلى ذلك. فقد أورد أكثر من إحدى عشرة بلدة رئيسة، إلى جانب مجموعة من الحصون وجزيرة سوقطرى.

ورسم مخطّطات عدد من المدن: معتمداً في ذلك على أشكال هندسية يسيرة، وهذا ما يسمى «مدرسة البلخي» في أسلوب الخرائط التي توضح الأعمال الجغرافية المبكرة كمصدر للتضاريس التاريخية لشبه الجزيرة العربية، ولا سيما المناطق المأهولة بالسكان في نصفها الجنوبي. ويحتلّ «تاريخ المستبصر» أهمية قصوى بعد قيام الهمداني في وقت سابق بوضع كتابه «صفة جزيرة العرب».

ومع ذلك، فإن حساب ابن المجاور يذهب إلى أبعد من الطوبوغرافيا، ضمن إطار فضولي، فهو يتجوّل بعيداً عن مساراته المعلنة والأوصاف الآثارية، ممّا يجعل ذلك كتابه غنيّاً جدّاً، وزاخراً. والأهم بين اهتماماته هو الإشارة إلى كلّ جوانب التجارة تقريباً - مثل الدرجات المختلفة، على سبيل المثال، والسلع الجلدية والسيوف، وتفاصيل الأوزان والمقاييس للجمارك والرسوم والضرائب.

ومِن تكرُّر ذلك في كتابه يظنّ الواحد أنّ ذلك هو هاجس له، أو أنّه كان يحلم بالضرائب. وحقيقة أنّ «تاريخ المستبصر» هو المصدر الرئيس، إلى جانب وثائق من «جنيزة» القاهرة، من أجل دراسةٍ حديثة عن التاريخ التجاري الإقليمي.

رحلة غنية

ولا يمكننا الجزم بعدد الرحلات التي قام بها ابن المجاور إلى شبه الجزيرة العربية، وربما كانت رحلة واحدة فقط، وعلى افتراض أنه قدِم من الجهة الشمالية الشرقية فإنه سيمرّ عبر طريق الكوفة - مكة، طريق زبيدة أو طريق البصرة - مكة.

وكسائر المسلمين المسافرين، قام ابن المجاور أولاً بأداء فريضة الحج، ثم انصرف للتجارة، ثمّ شقّ طريقه من مكة إلى الطائف، ولم يدوّن عنها شيئاً، ثمّ جنوباً إلى تهامة اليمن وبالتحديد الجزء اليمني لسهول ساحل البحر الأحمر، حيث سجّل الكثير عن مدينة زبيد منارة التعليم، ثم تابع جنوباً نحو باب المندب، حيث أقصى الجنوب العربي لشبه الجزيرة العربية، ومن هناك توجّه على طول الساحل الجنوبيّ لشبه الجزيرة العربية نحو عدن التي كانت هدف رحلته، وهناك سلّط الضوء على مختلف أنواع الأسواق والتجارة.

ولا يمكننا الجزم بمدى توغّل ابن المجاور صوب جبال اليمن بالاعتماد على الملاحظات الشّخصيّة التي وصفها في كتابه، أو حتى من خلال الإشارات المستوحاة من النّصّ. ولكنه ذكر على وجه التأكيد بعض الأماكن الهامّة في المرتفعات الجنوبية مثل تعز وذو جبلة وذمار في الشمال والمدينة الرئيسة صنعاء وصعدة التي روى عنها الكثير. ثمّ تابع رحلته على طول الساحل الجنوبيّ، وقَطَعَ الطرق الداخلية عبر وادي حضرموت، حيث كتب هناك عن مدينتَي شبام وتريم، ثم على طول الساحل إلى مدينة ظفار.

ومنها توجّه ابن المجاور بعد ذلك إلى رأس الحدّ. ثم اتجه إلى يسار خليج عمان، حيث زار مدينة صور ثمّ مدن قلهات ومسقط وصحار، ثم سافر على طول ساحل الباطنة إلى أن وصل إلى خورفكان، ثم اتجه شمالاً صوب شبه جزيرة مسندم من الجانب الشرقي إلى أن بلغ كمزار. وبعد ذلك توجّه بحراً من الجهة الغربية إلى الخليج العربي عبر مضيق هرمز إلى جزيرة قيس، وأخيراً زار ابن المجاور البحرين، ونفترض أنه قد عاد إلى موطنه خراسان من خلال رأس الخليج نحو الشرق.

مدن تاريخية

سار ابن المجاور على طول الساحل الشرقي، مروراً بكلباء ثم خورفكّان ثمّ دبا، ثم ليما فكمزار، وهي إشارة فريدة لهذه القرية في تلك الحقبة الزمنيّة، ثمّ جُلفار (رأس الخيمة)، كما أورد قريتَي طيوي وعاصم القريبتين من قلهات، ولم يدوّن شيئاً عن هذه المواضع.

ثمّ أسهب في وصف جزيرة قيس، وأشار إلى أحوالها، وأهلها، وتجارتها، وشيء من تاريخها وعلاقة أهلها بِمَن جاورهم، وأورد بعض الحكايات والأساطير. كما سجّل أنواعاً من السلع والبضائع والضرائب، معرجاً على طبوغرافيّة الجزيرة، وبساتينها، والغوص على اللؤلؤ.

عادات

تجدر الإشارة إلى العديد من النواحي الأخرى التي استرعت اهتمام ابن المجاور من الناحية التوثيقية والتأريخية المهمة؛ إذ كان لدى ابن المجاور عين مغناطيسية استحوذتْ على الكثير من الاهتمام الأنثروبولوجي كعادات الزواج والسحر والطقوس المتَّبعة واللباس والغذاء وما إلى ذلك.

كما كان لديه أيضاً التلذّذ بحكاية القصص والأساطير والخرافات. ووُجد في الكتاب أيضاً الكثير من الأخبار: سواء صدّقنا ذلك أم لم نصدّقه؛ وعلى سبيل المثال نجد أنّه ذكر «ترتيبات الحماية بين العرب»، بخصوص الأسرى وفترات الحصانة من الموت التي يستمتعون بها نتيجة استهلاك أنواع مختلفة من الطعام والشراب في منازل الخاطفين.

12

يعد كتاب ابن المجاور مرجعاً في توثيق أسماء المدن، إذ قد ذكر أرض جعلان تحديداً، ثم أشار إلى مدينة صور ولم يدوّن شيئاً عنها، ثم ذكر قلهات، وأشار إلى طيب مائها، وبساتينها، ونخلها وأنّ فيها نهراً دعاه: «نهر سقراط»، ثمّ أشار إلى جبل السَّعتري القريب من قلهات، وهو الجبل الذي نجر فيه النّبيّ نوح -عليه السلام- سفينته الضخمة، حسب ما يدّعي.

وأشار إلى مدن مسقط، وقال: إنها تنطق «مسكت»، وصحار التي ذكر أنّه كانت تتبعها آنذاك 12 ألف قرية، مع 12 ألف قصر، مع 12 ألف نهر، مع 12 ألف جامع، وأن بها 192 موضعاً لوزن السلع والبضائع.

صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان تصدر كل خميس