اهتمّ الباحثون بصورة عامّة بالمخطوطات العربية الإسلاميّة، وأولوها تحقيقاً ونشْراً وشرحاً وتعليقاً، وضمّت مكتبات العالَم آلاف المخطوطات العربيّة الإسلاميّة، وافتخرت مراكز بحثية عالميّة بحيازتها مخطوطات نادرة، وهي في شتّى العلوم والمعارف، ومتنوّعة علميّاً وجغرافيّاً وتاريخيّاً. وأمّا فيما يتعلّق بوجود المخطوطات في دول مجلس التعاون فإنّها تنقسم إلى قسمين:
"عربيّة عامّة"
هذه المخطوطات كانت موجودة أصلاً عند أفراد أو عند جهات رسميّة في دول المجلس، أو تمّ تصويرها أو تخزينها في مراكز بحثيّة متخصّصة في حفظ المخطوطات العربيّة، ويأتي على رأسها: المخطوطات الموجودة في دبي، و«مركز الملك فيصل للبحوث والدّراسات الإسلاميّة»، و«مكتبة الملك فهد الوطنيّة»، و«دارة الملك عبد العزيز» في الرّياض، و«مكتبة المسجد النّبويّ» في المدينة، و«مكتبة الحرم المكّي» في مكّة المكرمة..وغيرها، و«مركز المخطوطات والتراث والوثائق» في الكويت، و«مركز عيسى الثقافي» في المنامة، و«مكتبة السيّد محمّد بن أحمد البوسعيدي» و«هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية» في مسقط. وتضمّ هذه المكتبات والمراكز آلاف المخطوطات العربيّة في كلّ الفنون والعلوم.
وهي في أغلبها مُفهرَسة ومبوَّبة، ومُبرمَجة، ويمكن الوصول إليها بسهولة. ومن حُسن الطّالع أنّ هذه المراكز لها مواقع على شبكة المعلومات العالميّة تعرض فيها محتوياتها من المخزون المخطوط، إضافة إلى الإصدارات التي تتمّ طباعتها في هذه المراكز.
ومن هنا يتأتّى لنا القول بتطوّر عمل المراكز فهي ليست أماكن لتخزين المخطوطات فحسب، بل تقوم على تحقيقها ونشْرها وجعلها في متناول أيدي الباحثين. ولا شك في أنّ مركز جمعة الماجد يأتي في مقدّمة المراكز الخليجيّة.
المخطوطات المحلّيّة
ونعني بالمخطوطات المحلية تلك المخطوطات التي قام بتأليفها ونسخها علماء من أهل المنطقة عبر عصورهم المختلفة. وهنا نجد تمايزاً وتميّزاً بين هذا القسم والقسم الأوّل، وهنا أيضاً تتباين دُول مجلس التعاون الخليجي في هذا النّوع من الكتاب المخطوط.
ففي المملكة العربيّة السعوديّة ثمّة العديد من الكُتب المخطوطة التي قام بتأليفها علماء سعوديّون، وخصوصاً في فترة الدّولة السعوديّة الأولى وما تلاها، وركّز كثير منهم على العقيدة والفقه والسّير والتاريخ والأدب.
ومن أشهر هؤلاء العلماء هو الشيخ محمّد بن عبدالوهاب، الذي خلّف عدداً من المصنَّفات الفقهيّة والعقديّة، إضافة إلى العديد من الرّسائل، ثمّ تلاه أبناؤه وأحفاده. وقد اهتمّت الحكومة السعودية كثيراً بتراث الشيخ ابن عبد الوهاب وذريّته.
ونتيجة لهذا المحيط الثقافي ظهرت عدد من المصنَّفات في ميادين العقيدة والفقه والتاريخ، ومن أشهرها كتب: «عنوان المجد» لعثمان بن بشر، و«التاريخ» لحسين بن غنّام، و«تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء القديم والجديد» لمحمد بن عبد الله الأحسائي، و«إفادة الأنام في تاريخ البلد الحرام» لعبد الله بن محمد الغازي المكي الحنفي.
ومن حسن الحظّ أنّ أغلب هذه المخطوطات قد تمّ نشْرها محقّقة.
كما أن سلطنة عُمان لها جهد ملموس في التأليف المحلّي والإرث العلمي التراثي، إذ خلّف العلماء العمانيّون مئات المخطوطات منذ القرن الخامس الهجري على أبعد تقدير وحتّى العصر الحديث، مع الاختلاف في ما هو أقدم مخطوط تمّ العثور عليه حتى الآن، وهذا الاختلاف يشي بعدم وجود مصنَّف يفهرس المخطوطات العمانية جميعها ويعيد تبويبها حسب ظهورها الزماني، وهذا الأمر متروك للاجتهادات الفرديّة، وممّا يزيد الأمور تعقيداً أنّ الموروث الخطّي العماني متوزّع في أرجاء السلطنة، وهو في جزء منه ضمن الملكيات الخاصّة، والمكتبات العائليّة، وهو بالتّالي عرضة للتلف إذا لم يتمّ تدارك الموضوع وفق أسس سليمة وضمن جهود كبيرة متكاتفة.
وقد برز في مدينة نزوى مجموعة من العلماء الكبار الذين كتبوا وجمعوا العديد من المخطوطات والرّسائل، مثل: مكتبة الشّيخ خلف بن سنان الغافري، أحد قضاة الإمام سيف بن سلطان اليعربي (ت. 1711) التي كانت تضمّ 9370 مخطوطة، وكان الشّيخ يفتخر بذلك.
وهنا أيضاً تتركّز التآليف في الفقه، والعقيدة، والأدب واللغة والتاريخ، مع بعض الاهتمامات في الفلسفة والمنطق، والطّبّ والفلك وعلوم البحار.
وقد نالتْ المخطوطات العمانيّة حظّاً من الاهتمام مِن قِبل الباحثين والمتخصّصين والإدارات الحكوميّة من حيث التحقيق والنّشر والتصوير. ورأى جزء منها نور النّشر والتداول بين القرّاء بطبعات متنوّعة، وفي الوقت نفسه اختلفتْ تحقيقات هذه المخطوطات تبعاً لدارسيها، وتخصّصاتهم، وتوجّهاتهم الفكريّة، ورؤاهم العلميّة.
وعند التحقيق فعلى المحقّق الأخذ بعين الاعتبار القواعد التالي:
القاعدة الأولى: الهدف من التحقيق.
القاعدة الثانية: نُسَخ المخطوطة.
القاعدة الثالثة: مؤلِّف المخطوطة.
القاعدة الرابعة: «عنوان: عملنا في التحقيق» أو «منهجنا في التحقيق».
القاعدة الخامسة: وضع صورة للمخطوطة.
القاعدة السادسة: الحديث عن مصادر المؤلِّف.
القاعدة السّابعة: استكمال نواقص المخطوطة من المصادر المطبوعة.
القاعدة الثامنة: تعريفات الأعلام.
القاعدة التاسعة: التعريف بالأعلام الجغرافية.
القاعدة العاشرة: تخريج الأحاديث.
وبعد ذلك، على المحقّق النبيه أن يبيّن الهدف من القيام بتحقيق المخطوطة، وذِكر نُسَخها. والحديث عن مؤلِّف المخطوطة بتفصيل، ومدى صحّة نسبتها إليه، على أن يتضمّن ذلك معلومات وافية.
ومن المتعارف عليه أنّ المحقّق في التمهيد يضع عنواناً جانبيّاً: «عملنا في المخطوطة»، وهي أمور منهجيّة يوضّح فيها طريقته في التحقيق، وما قام به في سبيل ذلك.
ومن المتعارف عليه كذلك أنّ المحقّق يضع صورة لنسخة المخطوطة أو بعض نماذج لنسخ المخطوطة التي يقوم بتحقيقها، ويذكر فيها: أول فقرة تبتدئ بها المخطوطة، وآخر فقرة تختتم بها، حسب ما دوّنه المصنِّف. إضافة إلى الحديث عن المصادر السابقة لزمان المؤلِّف، وهي التي نقل منها، إمّا حرفيّاً، وإمّا بالمعنى، سواء وضّح ذلك أم لم يشر إليه.
وهذا معناه أنّ المحقّقين قد انتبهوا إليه، ونبّهوا له في الحواشي. ومادام الكاتب قد نقل من مصادر أخرى، وهذه المصادر منشورة ومطبوعة، وهي بين أيدينا فعلى المحقّق إذن استكمال ما اعترى الكتاب من نقص وسقْط وخلط من تلك المصادر لتتم بذلك الفائدة، ويُستدرك النّقص الحاصل.
وعلى المحقّق كذلك التنبيه إلى السماعات الشخصيّة للمؤلِّف التي دوّنها في كتابه بمعنى أنّ بعضها أو ربما كلّها لم ترد في المصادر التي نقل منها، وهذا يحتّم على المحقّق التنبيه عليه، ليعلم القارئ الفرق بين نقولات الكاتب، وبين سماعاته الشّخصيّة، وهذا بالتالي يتطلّب التنبيه إلى ذلك في حينه.
وفيما يتعلّق بتعريف الأعلام فإنّ الطريقة المثلى هي التعريف بالأعلام المُبهَمين أو غير المشهورين، ومن الغريب أن يتمّ التعريف بالخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، واستهلاك جزء من الهوامش في الحديث عنهم.
أو التعريف بمشاهير رواة الحديث من الصحابة أو التابعين أو مشاهير الخلفاء والملوك والأئمة لمجرّد ملء الفراغ. والأدهى أن يتمّ النّقل من كتاب الأعلام لخير الدّين الزركلي وحده، دون بقيّة المصادر المعتبرة.
وهذا الكتاب تحديداً هو مجرّد مفتاح أو مرشد وليس مرجعاً أصليّاً، خاصّة فيما يتعلّق بالأعلام القدماء. ومن الجدير بالإشارة إلى أنّ التّعريف بالأعلام يتمّ لأول مرّة يرد فيها ذِكرهم في المتن وليس كلّ مرّة.
وأمّا التّعريف بالأعلام الجغرافيّة فيتم فقط للأعلام المبهمة أو المجهولة أو غير المعروفة، ولكن ليس أعلام المدن كمكّة أو المدينة أو بيت المقدس أو بغداد أو دمشق أو الكوفة أو البصرة أو صنعاء أو مسقط أو نزوى أو صحار.
إضافة إلى التّعريف بالكتب والمصنَّفات الواردة في المتن أو بمؤلّفيها غير المشهورين بالنّسبة لعامّة القرّاء. مع تنبيه القرّاء إلى ما يحتويه الكتاب من مآخذ في الأسلوب أو المنهجيّة حسب رأيه. أو تبيان ذلك في الهوامش حين يرد ذِكرها في المتن. ومثل هذه الملاحظات لا تعني تجريحاً أو تقليلاً من شأن المؤلِّف.
تخريج الأحاديث
فيما يتعلّق بتخريج الأحاديث، وهو فنّ لا يكتفي فيه المحقّق بنسبة الحديث إلى كتبه ومصادره المعروفة، بل عليه أن يخرجه تخريجاً علميّاً صحيحاً، والطّريقة المثلى للتخريج تتطلّب فنّاً معيّناً يعين القارئ على تتبّع الحديث في مصادره، وإن كان الحديث في غير الصحيحين فإنّه ينقل أقوال العلماء في الحكم عليه، خاصّة أنّ كتب السُّنن والمسانيد والمجاميع وغيرها أصبحت محقّقة من قِبل علماء جهابذة متخصّصين. وسوف نضرب أمثلة على ذلك:
- نقول مثلاً: أخرجه البخاري في الصّحيح، (تحقيق: عبد الباقي والخطيب، القاهرة، 1400 هــ)، كتاب: الفِتن، باب: تغيّر الزّمان حتى تُعبد الأوثان، ج. 4، ص. 323-324؛ رقم: 7116. ومسلم في الصّحيح، (تحقيق: محمّد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1997)، كتاب: الفِتن وأشراط السّاعة، باب: لا تقوم السّاعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة، ج. 4، ص. 536، رقم: 2906.
إنقاذ من التلف
يضطلع عدد من مراكز البحوث والدراسات بمهمة إنقاذ المخطوطات الموجودة في المكتبات الخاصّة، ولديها حافلات مجهّزة لهذا الغرض. وفي الوقت نفسه تتولّى إنقاذ المخطوطات على مستوى العالَم. ومثل هذه الثقافة لم تكن موجودة في السّابق، فمجرّد حماية المخطوطات من التلف هو إعادة اعتبار لهذا المخزون الثقافي المهم.
تحقيقات مختلفة
قد تختلف نسخ الكتاب الواحد من تحقيق لآخر، وكنموذجٍ على اختلاف التحقيقات للكتاب الواحد ما تمّ على كتاب: الصحيفة القحطانيّة للمؤرّخ الشّهير: حميد بن محمّد بن رزيق، الذي نُشر مرّتين وبتحقيقيْن مختلفيْن، وفي سنتَي نشر متقاربتينْن؛ التحقيق الأول: كان على يدي أ. د. حسن بن محمد النّابودة، عميد كُلّيّة العلوم والإنسانيّة والاجتماعيّة في جامعة الإمارات العربيّة المتحدة، بنشْرٍ من دار البارودي في بيروت عام 2008، في 3 مجلّدات ضخمة.
والتحقيق الثاني: على يدَي كلّ مِن: د. محمود بن مبارك السليمي، و أ. د. محمد حبيب صالح، و أ. د. علّال الصدّيق الغازي، بنشر من وزارة التراث والثقافة بسلطنة عمان، عام 2009، في 5 مجلّدات.
ويعتبر كتاب الصحيفة القحطانية أحد المؤلَّفات المهمّة التي تتناول جوانب مختلفة من العلوم الإنسانيّة. وتعد المخطوطات العمانيّة من التراث الإنساني العالميّ، الذي ينبغي للجميع الاطّلاع عليه باعتباره تراثاً فكريّاً غير محدود، أسوة ببقيّة المخطوطات العربيّة.
خلاصة
بعد دراسة متأنّية لتحقيقَي الصحيفة القحطانية أجزم أنّ الكتاب المطبوع في مسقط كان مستعجلاً، وقد وقع فيه المحقّقون الثلاثة في أخطاء كبيرة، وخالفوا تلك القواعد التي ذكرناها سابقاً، وأسرفوا في التعريف بالأعلام أيّما إسراف.
وأعتقد كذلك أنّ تحقيق الدكتور حسن النّابودة هو أجود وأتقن وأكثر علميّة وأكاديميّة وإخراجاً مع ما فيه من بعض الهِنات التي يمكن استدراكها حين تتمّ إعادة طباعة الكتاب.
وأمّا التحقيق الثلاثي، وإن تميّز في العودة إلى عدد من المصادر العمانيّة التي أغفلها الدكتور النّابودة، والتعريف ببعض الأعلام المتأخّرين التي لم يعرّفها كذلك الدكتور حسن، إلا أنّ هذا التحقيق قاصر ولم يحقّق الهدف الذي ذكره الأساتذة في مقدّمة تحقيقهم، ولم يلتزموا بالمنهجيّة العلميّة التي وضعوها، وذكروها في تقديمهم.
صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان تصدر كل خميس