من الصّيغ الكتابيّة التي كانت متداولة في المكاتيب «بسم الله الرحمن الرحيم.. حضرة الولد العزيز المحترم، وبعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإن سألتم عنّا فنحن على أحسن حال.

ولا ينقصنا إلا رؤية وجوهكم الكريمة، الواصل لكم بيد أحمد بن سالم الكيت، «بُطل» عسل، و«سحّارة دخون» عود شيء، من «ها» القبيل، وفي الختام نتمنى أن يوصلكم كتابنا وأنتم على أحسن حال، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

ومن الصّياغات كذلك «إلى حضرة، جناب، الأجلّ، الأمجد، الأكرم، المكرّم، الأفخم فلان بن فلان المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن سألتم عنّا نحن ولله الحمد بخير وعافية، وما نسأل إلا عن صحّة حالكم، أحال الله عنّا وعنكم كل سوء، وبعدين إذا كان هذاك مطرّش خط والا شيء يعني كتابك الشريف إلينا وصل، وفهمنا بما ذكرت، وصار لدينا معلوم، أمّا بعد عاد يبون يخبرون بشيء.

مثلاً والله الفلوس اللي أرسلتها مع فلان بن فلان فقد وصلتْ». ومنها: «حضرة فلان بن فلان المحترم بعد التحية والاحترام الواصلة إليكم من بيت محمد بن حميدان 100 روبية».

صيغ كتابيّة

في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين، وبعد انهيار سوق اللؤلؤ الطبيعي، وبعد اكتشاف النّفط في بقيّة دول الخليج العربيّة، وتحسّن أوضاع المعيشة هناك، غادرت أفواج من أبناء الإمارات للعمل هناك رغبةً في تحسين أوضاعهم المعيشيّة بعد فقدان أعمالهم في ميدان الغوص.

وكانت الحاجة واليُتم من أكبر العوامل التي دفعتْ بالأسر إلى أن تترك أولادها وهم دون سِنّ الخامسة عشرة للسّفر للعمل هناك، فتربّوا منذ نعومة أظفارهم على تحمّل المسؤوليّة مهما عظمتْ، ولهذا كان يقع على عواتقهم رعاية عوائلهم، وكانوا يتحمّلون التكاليف بروح تملؤها عاطفة الأبوّة مع أنّهم صغار في السّنّ، وهي سِنّ في عُرف زماننا ضمن مراحل الطّفولة.

ولكن في عُرف زمانهم مرحلة من مراحل الوعي والإدراك والرّجولة، والإشراف على شؤون الأسرة حين يغيب كبيرها وعائلها، مع نضجٍ وفهمٍ وصبرٍ وتحمّلٍ، دون تذمّرٍ أو تململ، حتّى لو وقع على أحدهم ضرب ممّن هو أكبر منه تجده يكظم عواطفه ويسكت، ومع كلّ ذلك تجده يقول:

«تعلّمنا، وتربّينا»، مع الإقرار بأنّ الحياة في ذلك الزّمان كانت هكذا. وهذه الحياة التي علّمتْهم كيف يتعاملون معها بكلّ وعي وإدراك.

وهي الحياة نفسها التي جعلتْهم يرون سعادتهم في إسعاد أهاليهم وعوائلهم، وهي الحياة ذاتها التي رأوا فيها ميداناً للتنافس الشريف، والعمل الشريف، وهي الحياة بعينها التي حدّدتْ لهم أهدافهم في السعي في مناكبها دون تعب أو ملل أو كَلل، ولهذا كان ذلك الجيل جيل العظمة، جيل العمل النّاجح، جيل الخير والبركة، جيل النّهضة، ذلك الجيل الذي بنى دولة الاتحاد بعد الوحدة المباركة.

خبرة

تجدر الإشارة إلى أنّ كثيراً من الذين سافروا إلى دول الخليج العربيّة للعمل قد سبق لهم أن عانوا الأسفار، وخبروا البحار، وعرفوا الموانئ، وتنقّلوا بينها حاملين البضائع والسلع مثل «المالح» والأسماك المجفّفة، والفحم والأخشاب والسّكّر والقهوة والأرز وغيرها، فيما بين موانئ الخليج العربي.

وموانئ بحر عُمان، مع صغر الأعمار، وفي فترة مبكّرة من السّنّ في سبيل توفير ما يعول أنفسهم وأهاليهم، وهذا مؤشّر واضح إلى النّشاط التجاري بين موانئ الخليج في فترة الأربعينيات وما بعدها، وهي بلا شكّ حقبة زمنيّة لها ظروفها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والنّفسيّة.

ومن الدّوافع التي شجّعتْ الأهالي على السّفر أنّهم وجدوا غيرهم قد سبقهم، وشاع بين النّاس «مَن أراد كسب العيش فليسافر».

ومع توافر النّخيل في بعض المناطق، فإنّ أغلب الأعمال المتعلّقة بها تتمّ في القيظ حين تنضج الثّمار، وما يتبع ذلك من أعمال، ولهذا نجد كثيراً من أهالي تلك المناطق ذهبوا للعمل في بلدان الخليج العربيّة لأنّ العمل عندهم موسميّ ومحدود، ولهذا تجد مجموعات منهم ترجع في فصل الصّيف لِمتابعة أمور النّخيل التي تتطلّب مجهودات أكبر، وموسم «الضغوة» في الساحل الشرقيّ.

وهذه الحياة المباركة هي التي صقلتْ مواهبهم، وأكسبتْهم لذّة العيش بعد معاناة الحياة، وكانت الهجرة لبلدان الخليج العربيّة عامّة في كل مدن الإمارات وعمان، بل لدرجة أنّ بلدة عظيمة مثل «صور» التي قام اقتصادها على بناء السّفن،.

والتّجارة والأسفار بعيدة إلا أنّه مع توافر فرص العمل هناك فضّل عديدون من أهلها الهجرة التي رأوا فيها خيراً لهم مِن المخاطرة في الأسفار البعيدة، ومن كثرة المهاجرين للعمل حتى كادت بعض القرى تخلو إلا من الصغار والنّساء وكبار السّنّ.

تواصل

ولأن الأماكن متباعدة والدروب متوزّعة والوجهات متفرّقة، تطلّب ذلك اتصالاً بالأُسر في مدن الإمارات، وكان التّواصل مع الأهل والعوائل يتمّ عن طريقين: الأوّل كتابة الرّسائل، وبعثها في البريد إلى دبيّ تحديداً.

ومن هناك يأتي أيّ أحد من أبناء الإمارات الأخرى ويتسلّم المكتوب، ويوصله إلى وجهته؛ إمّا عن طريق أيّ شخص يأتي إلى دبي أو عن طريق شخص بعينه يتولّى هذه المسؤولية، وهي إيصال الرسائل إلى وجهاتها. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه الوسيلة تعتمد على مدى تحديث الخدمات البريدية، وتطوّرها.

والثّاني: بعْث الرسائل مع أناس أمناء من أهل البلد، مع ما توافر لديهم من أموال، ويقوم هؤلاء الأفاضل بتوصيل المكاتيب والأموال والحاجيات إلى الأهالي، وفي الوقت نفسه ينقلون الأخبار والمكاتيب و«المطاريش» إلى العاملين في بلدان المهجر الخليجيّ، وعُرف هؤلاء الأفاضل بـ«البوسطة».

وهي فيما يبدو تحريف للكلمة الإنجليزيّة (POST) بمعنى البريد أو بالأحرى ساعي البريد، مع أنّ مَن يقومون بهذه المهمّة يؤدون عملاً أوسع وأكبر مِن مجرّد إيصال رسالة، أو أن اللفظة مأخوذة من البَسْط، وهو ما يقوم به كثير منهم ببسط «خرقة» أو رداء أو قماش على ظهر المراكب والبواخر القادمة من دبيّ أو المتجهة إليها، ويعرضون عليها بعض الحاجيات للبيع للمسافرين.

وفي اعتقادنا أنّ التّفسير الأوّل هو الأرجح مع الإقرار بأنّ بعضهم فعلاً كان يتاجر بحاجيات على ظهر المراكب، يبيعون فيها «اللاس» الهندي ومعجون الأسنان والفرشاة والمقاريض والنّعل والمنسوجات وغيرها. وبلا شكّ هي ربح، لأنّ ركّاب هذه البواخر في بعض الأحيان بين السبعمائة والثمانمئة شخص.

ومن مهام هؤلاء الرجال الثقات قيامهم بمرافقة الصغار من المهاجرين، وتوصيلهم إلى بلدان المهجر الخليجي إلى أقاربهم هناك، ويعدّون ذلك نوعاً من المسؤوليّة التي يجب تحمّلها، وطبعاً لا يتأتّى ذلك إلا مع رجال ثقات صادقين مخلصين، كما يقوم رجل البوسطة باصطحاب عدد من المسافرين معه، وإعانتهم على السّفر، ولو بالحيلة والتخفّي.

رجالات البوسطة

ومن أشهر رجالات البوسطة في رأس الخيمة أحمد بن سالم الكيت، وحسن ومحمّد وإبراهيم أبناء صالح كرّوع، ومحمّد بن سيف، وسلطان بالعري، وإبراهيم بن عثمان، وسعيد الوالي، رحمهم الله جميعاً، وحسن بن محمّد بن حميدان الزعابي، وحسن بن جاسم الزّعابي رحمه الله، وأحمد بن عبدالله بن يوسف رحمه الله.

وسعيد الضّبع رحمه الله، وعبدالله البرق رحمه الله، وراشد الغرشومي رحمه الله؛ ومحمّد بن جمعة البوت.

وخليفة المليحي، وحسن البغام رحمه الله، وسالم بن جابر الصّوري، ومحمّد الحولة، وسلطان بن عدي، وعبدالله بن أحمد الدّباني، وعلي بن سعيد بن حارب رحمهم الله جميعاً. وفي الفجيرة عموماً سليمان الخدّيم، وعلي برمان، وعلي بغداد، وراشد صفر، وسيف صفر، وهلال الغيص، وربيع بن أحمد بن ربيع رحمهم الله جميعاً. ومن أهم رجالات البوسطة في الشّارقة علي بن عبدالرّحمن الجروان.

ومفتاح العريف رحمهما الله، وفي خورفكّان سعيد الحايري رحمه الله، وسعيد الهاجري رحمه الله، وفي دبي شخص يدعى «سبيل»، وعبدالعزيز توير، ومحمّد حانوه، وفي أمّ القيوين: إبراهيم جدّاح، وعبيد الغربي رحمهما الله، وهم أصلاً من إمارة رأس الخيمة، وفي عجمان أحمد بن جمعة بوشيخة، وسالم بن علي، وسلطان بن راشد الشّحّي، ومحمّد دود من خصب.

«سرّيحة»

وبما أن الأغراض والحاجيات في بلدان المهجر الخليجي تكون أرخص ثمناً عنها في البلد، فهي فرصة أن يشتري أحدهم لأهله حاجة ثمّ يبعثها لهم مع البوسطة، ومن الطّرائف أنّه إذا اشترى أحدهم لأهله قطعة قماش وبعثها إليهم في البلد ثمّ أعجبتْهم، طلبوا غيرها واقتطعوا جزءاً من القماش «سرّيحة»، وأرسلوه إليه، أن ائتِ بمثلها، فتجد المسكين يمرّ على أسواق القماش يبحث عن هذه النّوعيّة تحديداً.

وكان بعضهم إذا كان لا يقرأ ولا يكتب فإنّه يجد مَن يقرأ له الرّسائل حين يصل إلى بلد المهجر الخليجي أو حين يعود إلى بلده، فحين يأتيه الأهالي يقرأ لهم أحدهم فيقول: لِفلان كذا، ولفلان كذا.

ولفلانة كذا مبلغ من المال، عندها يتمّ فرز المال وتوزيعه على أصحابه كلّ حسب منطوق الرسالة. وفي بعض الأحيان يكون رجل البوسطة الواسطة الماليّة للمدرّسين، الذين يعطونه أموالاً يأخذها معه إلى الكويت مثلاً، وهناك يحوّلها لهم إلى فلسطين أو مصر أو غيرها.

وبالتّالي كان رجل البوسطة رحّالاً لا تستقرّ به الحال سواء كان في بلده أم في بلدان المهجر الخليجيّ لأنّ هذه مهنته، ومنها يسترزق، وإذا كان الأمر القادم من البلد مستعجلاً فإنّ بعضهم يحرق طرف الرسالة.

أسعد الأخبار

كانت الأخبار في الماضي تأتي إلى بلدان المهجر الخليجي متأخّرة سواء كانت مفرحة أم حزينة، ومن أحسن الأخبار السّعيدة تبليغهم بالمولود، حيث تصل إليهم رسالة فيها ختم لِكفّ المولود أو قدمه، سواء كان ذكراً أو أنثى، وهذا نوع من التأكيد.

وكان رجل البوسطة يمثّل الكثير للأهالي، فهو مصدر الأخبار والمال، وكان يكتب لِمَن لا يجيد الكتابة، وكان يحمل معه كذلك بعض النِّدَب وهدايا يسيرة من «السحناه» والعسل والسّمن و«البثيث»، بل ربّما يبعث الأهالي درّاجات «سياكل» لأولادهم.

وكان رجل البوسطة يحمل رسائل التوكيل المعتمدة من محاكم البلدان الخليجية توكّل فلاناً بالولاية لفلان في تزويج ابنته نيابةً عنه، أو للبيع والشراء والرهن والمنح والإعفاء والدَّيْن ودفع الأموال والتملّك والمسامحة.

معرفة القراءة

استقطب علم الفتى بالقراءة والكتابة أفئدة أهالي «الفريج»، الذين يأتونه رجالاً ونساءً لِيكتب لهم ولأهاليهم البعيدين عنهم، كما كان يقوم بعضهم بهذه المهمّة في أماكن العمل والتجمّعات، يتطلّب منه طاولة وكرسيّاً وقلماً وأوراقاً فقط، كما تتولّى بعض الفتيات مهمّة قراءة المكاتيب والرسائل للنّساء والأقارب.

وبمجرّد وضع القلم في الجيب العلويّ «للكندورة» يعني أنّ هذا الفتى كاتب، ولا يمنع أن يتحصّل على نصف روبية في مقابل عمله كاتباً، وكانت بعض الفتيات يقرأن أخبار خطبتهنّ أو الموافقة على تزويجهنّ من خلال الرسائل القادمة من الوالد وهو مقيم هناك.