الرسام الهولندي ذو الشهرة العالمية فان غوخ رسم الكثير من اللوحات الإبداعية، إلا أن مزهرياته لها أبحاث وأبعاد أخرى، وبالأخص تلك التي تحمل زهور دوّار الشمس التي كررها مراراً.. فلماذا؟ تلك الزهور التعسة يراها الناس بلا جمال، وبمزاج فرح على الرغم من حزنها، كانت النتيجة ألا يقتنيها أحد، فكيف لهم أن يعلّقوا في منازلهم زهوراً ذابلة أو قريبة إلى الموت، وكان أصحاب المنازل الأنيقة يحرصون على اقتناء لوحات الزهور والفواكه اليانعة، لكن ما أثار الانتباه أن لوحاته البائسة تلك أثارت الإعجاب بعد وفاته، وخاصة دوّار الشمس التي أعدّها فان جوخ، ليشرح من خلالها نفسية الكائنات عموماً، ودورة حياة الإنسان خصوصاً.
تعبير
نقل المعذَّبُ الشهير فان غوخ حياته العاطفية والروحية إلى كل أعماله الفنية التي لم يبع منها سوى واحدة في حياته، ليصبح بعد رحيله من أكثر الفنانين ثراءً على عكس حياته. نأتي اليوم لنبحث من جديد في مزهرياته المتعددة، تحديداً تلك التي وضع فيها زهور دوّار الشمس الصُّفر، لنجدها مشرقة في ألوانها، لكنها ليست بذات الإشراق في بتلاتها، وأتساءل كيف أوحى لنا بأنها باهتة، فكأنها لوحة درامية مبتكرة بإيقاع عاطفي ساخر مؤثر وفخم في الوقت ذاته، فهل كان يُعبّر عن حياة الآخرين من خلالها، أو ربما حياته مع الآخرين؟ كيف توحي اللوحة لنا بهذا الإحساس المباشر، وفي كل مرة نُشاهد فيها اللوحة ينتابنا الإحساس نفسه، وفي المشهد ذاته الذي يخلو من المظهر، لنشعر باليوم والماضي والمستقبل.
تعبيرات لونية
كان فان غوخ متفانياً في تعبيراته اللونية، يعمل بضمير ووعي، لكنّ كان كل ذلك الصدق في رسم النبات والطبيعة متعباً له.. نكتشف من خلال الزوايا اللونية كم كان متعباً روحياً، ومندفعاً في بعض الأحيان، ووحشياً في لحظات أخرى، ويتضح كم هو مدمر ذاتياً، وأعني الدمار الداخلي الذي وَلّدَ فيه موهبة بهذا الحجم والعمق.
انتقلت عاطفة فان غوخ نحو زهرة دوّار الشمس التي ألهمته اختراع ألوان جديدة من لون واحد، ليتسنى لنا أن ندرس حالته وهو في حالة مزاج حادة، لكنه بالمقابل استطاع أن يعبّر عن كل زهرة على حدة، من زهرة مشرقة أو زهرة شابة، عجوز، ذابلة، مريضة، حزينة، أو لا محال ميتة، راسماً للمزهرية دورة حياة الإنسان، من خلال زهورها وشخصياتها المختلفة ومراحلها الحياتية الطبيعية حتى الموت، ليخلط الألوان ببعضها، ويستخرج تلك الجزئيات النادرة من ذات الصبغة، لتصبح سلسلة من الألوان النابعة من اللون الأصفر ذاته، والسطوع الشمسي نفسه، وبدرجات لا حصر لها.
تجربة عبقرية
هل غرس فينا فان غوخ تلك المشاهد الصفراء العالية في دقة مزاجها، ليوضح لنا سنوات عمرنا وما فينا من زهور؟ إذاً، هي تجربة عبقرية، ففي مفعول كل زهرة دوّار شمس تدق على قلوبنا، يرن جرسٌ حاد وحزين بدواخلنا.
لقد اكتمل هذا العام مرور 130 سنة على لوحاته، فقد رسم كل لوحات دوّار الشمس في عام واحد هو (1888م)، لأتصور كيف كانت هذه اللوحات قبل قرن تدفع من يراها إلى أن يرمي فان غوخ بالجنون، وبأنه ليس سوى طالب لعلم الأمراض العقلية. لم يستطع ذاك القائل أن يقرأ اللوحات على أنها مزهريات ممتلئة بالشمس، تعيش معنا، نحس بها وإن لم تمتلئ رئاتنا بعبقها، ولم يدرك كم الحياة الساكنة مشبعة بالطاقة، وكم هذا الأصفر الحيّ مدهش في كشفه العلاقات بيننا في حياة نعيشها معاً، تماماً كما كشف لنا غوخ علاقته في الحياة بأناس مضطربين روحياً، في زمنه القصير الذي عاشه، ومع ذلك كان هدفه من رسم مزهريات دوّار الشمس ومن فرشاته المحملة بالتعب تزيين غرفته، لكنه زيّن العالم كله، مانحاً حياة جديدة ومشمسة لكل متعب يرى بتلاتها السقيمة.
في لندن
* المزهرية الذهبية ذات الـ15 زهرة - الأكثر جرأة وهي معلقة في متحف "جاليري لندن"
لنذهب إلى لوحته «مزهرية دوّار الشمس» المعلقة في معرض «غاليري لندن»، ذات الـ15 زهرة الشبيهة بالذهب، التي اشتغلها في الهواء الطلق، وهي الأشهر من بين المعروض في المتحف، والأكثر جرأة في حضورها من بين اللوحات الأخرى التي رسمها لدوّار الشمس في كل أنحاء العالم، المتميزة وهي مكللة بأرضية صفراء وجدار أصفر باهت، ذلك الأصفر في حضوره الكئيب على الرغم من حضوره التاريخي الطويل والجريء لطاقة الجسد والروح، والمعبر غالباً عن الإبداع في حياة الإنسان، حيث كان شائعاً بين المهندسين المعماريين ومصممي الحركة الجمالية التي حفرت في أحجار البناء والتي رأينا في بقاياها الباقية في مدن الحضارات المصرية والرومانية والصينية والهندية، لتأتي الزهور بين الواقفة والصامدة في الأعلى، ولتصمم رسماً بين انكسار بعضها وبين إشراقها وسقوط أخريات لم تقاوم وجودها بين قوة الكبار والحياة التائهة في نفسها. يعرف الجميع أن غروب الشمس استعراض جميل للأعصاب، وعلاجٌ في آخر النهار، أما في حياة فان غوخ فهي لحظات لا تُنسى وهو يراقب حقول القمح الناضجة بصفارها، وحقول دوّار الشمس قبل أن تأتي الرياح المفاجئة، وقبل التواء الزهور وقبل حركتها العنيفة غير المحببة، ليتنوع الغروب في رؤيته.
في هولندا
المزهرية الأخرى ذات الـ12 زهرة المعلّقة في متحف فان غوخ بالعاصمة الهولندية أمستردام، هي لوحة ذات طاقة هائلة على الرغم من جمودها، ورائحتها نفاذة على الرغم من انعدام إرادتها، لنتساءل عن أسباب رسمه دوّار الشمس، وحدائق الشموس تلك التي كان يجلس فيها.. لقد تآلف مع الزهور واعتاد مراحلها من بذور وبراعم وزهور ونمو.. عاش حياة دقيقة مع الطبيعة، من الحياة إلى الموت، ليهضم كل الرموز الصادرة منها، وحساسية الضوء مع لونها لتظهر رؤيته الصفراء في أعماله.
المزهرية ذات ال 12 زهرة .. طاقة هائلة، وهي معلقة في متحف فان غوخ في أمستردام
أسرار اللون
حدث قبل سنوات قليلة أن استخدم العلماء بعض التقنيات التحليلية عن أسرار اللون الأصفر، فكانت أولى خطواتهم فحص عينات من تلك الألوان القديمة الخاصة بلوحات فان جوخ، ومن خلال ذلك الأصفر المشرق في لوحاته، اكتشفوا أنه ابتدع درجات مميزة من الألوان بوضعها تحت الضوء خلال 3 أسابيع، أي ما يقارب 500 ساعة، واستخدم هؤلاء العلماء لمعرفة هذا السر الأشعة البنفسجية.
وقاموا بفحص ثانٍ لتلك المناطق المظلمة في لوحاته، ليأخذوا عينة من لوحته «نهر السين» مثالاً، واضعين ذلك الشعاع السيني المشع من ناحية، مكتشفين أنه ينتج جسيمات ضوئية عالية وساطعة ومركزة للغاية، ليتضح لهم مدى رقة الأصباغ وقوتها وتركيزها في الوقت ذاته، لتنكشف لنا بعد تقريرهم الصادر رؤية فان جوخ وهدفه الأسمى، وهو أن يبقى اللون الأصلي أطول فترة ممكنة، فالألوان معرضة للتغير مع الوقت، وبما أنه شخص قلق بطبيعته الإبداعية، أخذ بشكل مميت كما قرأنا من رسائله لأخيه ماثيو، في تحفيز التألق اللوني من خلال تلك المواد، وبالطبع لم نعرف كل ذلك سوى قبل سنوات قليلة وعن طريق أشعة «السنكروتوني» المكتشف عام 1946، الذي يفسره «غوغل» الآن، بأنه إشعاع كهرومغناطيسي، وهي ضارة بالصحة إذا تعرض الإنسان لها مدةً طويلة.
اكتشف العلماء في تلك العينة المأخوذة كيف أن صدور الضوء تلقائي، وكيف أن طبقة لا تُذكر من الورنيش هي المتغير فقط، ومع ذلك فإن الاختبارات ما زالت قائمة في ألوان فان جوخ وأسرارها، وبالذات اللون الأصفر بخصوصيته لديه، وبعد أن اعتاد أن يصبغ به لوحاته، ليخلطها بمادتي الكبريت والباريوم، وهما مادتان تُثبّتان الألوان كي تبقى أقتم على مر الزمن، بهدف خلق لون مميز، يقلل من العتمة ويزيد الإشراق.
3 زهرات بألوان مُبهمة
مزهرية فان غوخ ذات الـ3 زهرات لدوّار الشمس، الثلاثية التي لا يعرف الكثيرون عنها، بإنائها الأخضر وخلفيتها الفيروزية وأرضيتها البنية، والتي تم تسميتها أخيراً باسم «لوزان»، تم شراؤها من جامع لوحات ثريٍّ غير معروف، وكل ما قيل عنه إنه تاجر من نيويورك ابتاعها عام 1996، مقابل مبلغ لم يكشف عنه، لتقبع اللوحة لديه منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا.
إنها اللوحة الأكثر غموضاً من بين مزهريات فان غوخ الخاصة بدوّار الشمس، بل تبدو غارقة في الغموض، على الرغم من جمالها، ووصف البعض لها بأنها سمفونية قصيرة ومشرقة بتلك الزهور المنعشة وبحالتها الممتازة، وبتناسق ألوانها المتعمدة كي تبدو في حالة غموض دائم، مع شعور بالالتباس والغرابة.
سيمفونية تعزف على الجرأة
مزهرية فان غوخ في الآنية الزجاجية الخضراء و6 زهور جريئة لدوّار الشمس، وتبدو للبعض 5 زهرات بألوانها النادرة بدرجات مختلفة في اصفرارها مع خلفية زرقاء قاتمة.. هذه اللوحة، مع الأسف، دمّرتها الغارة الجوية اليابانية على الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية.
وكم كانت خسارة الإنسان كبيرة بفقدانه هذه اللوحة الرائعة على الرغم من تقليديتها، لكون أزهارها الصفراء مدعومة باللون الملكي الأزرق، الغني والمكتمل، وكأنها سيمفونية تعزف على الجرأة من خلال هذا اللون الصافي والزاهي، ومزاج مهووس بالأصفر، ليبين لنا الطلاء ما كان يعانيه من حب الحياة وآلام مكتنزة بالحزن، والتمرس في دهاناته الزيتية العالية في جودتها.
مزهرية حزينة تعاني الفرح
في متحف «ناي بيناكوتيك» بمدينة ميونخ الألمانية، وضعت مزهرية أخرى لدوّار الشمس للرسام الانطباعي فان غوخ، وكأن مزهرياته بالعشرات ولا تنتهي، وهي ذات النوع من الزهور التي سكنته طويلاً، ليزين أركان منزله كاملاً في منطقة آرل الفرنسية، لربما كان متفائلاً بها، كما تبدو لنا زهورها متفتحة وساطعة، ليؤكد لنا أنه رسمها وهو بحالة نفسية جيدة، فالمزهرية حزينة ومكتئبة، ومع أنها تعاني الفرح، لكنه فرح مؤقت تؤكده تلك الضربات اللونية الباهتة من فرشاته، من الأصفر بتدرجاته المخترعة التي تجذب المشاعر، معتقداً أنه لا شيء سوى دوّار الشمس يحرك القلب في هذه الحياة الساكنة في روحه.
1888
رسم فان غوخ في هذا العام العديد من لوحات دوّار الشمس المتفاوتة الشكل؛ ليثبت أنها ما زالت حية في روحه، ولتبقى كل واحدة الآن في عاصمة مختلفة، بين المتاحف والملكية الخاصة.
توثيق
في عام 1888 رسم بول غوغان لوحة لصديقه فان غوخ وهو في الحقل يرسم دوّار الشمس، توثيقاً لجلوسه الطويل في الحقول وهو يراقب ويرسم الزهور.
1889
رسم فان غوخ في هذا العام لوحة دوّار الشمس المعلّقة حالياً بمتحف «فان غوخ» في العاصمة الهولندية أمستردام، وهي الأكثر حياة من بين لوحات دوّار الشمس.
* صفحة مُتخصّصة بعلوم التاريخ والتراث والفنون في الإمارات والعالم.. تصدر كل اثنين